جمال وصف «الريحاني» للطبيعة والمدن.

يقول المستشرق النمساوي “غوستاف فون غرنباوم” في كتابه “الإسلام في العصر الوسيط”: “أن التغنّي في وصف المُدن في الأدب العربي أمرٌ نادر الحدوث نسبياً، وإذا عثرنا على شيء منه؛ فإننا نجد الأديب أو الرحّالة الواصِف مُوجِزاً قصير النَفَس، وقد نُدرك السّر في هذا إذا تذكّرنا أن الفترة الكلاسيكية للأدب العربي هي فترة الجاهلية، ولم تكُن المًدن حينذاك تلعب دوراً هامّاً في الحياة العربية”. ويورد “غرنباوم” نماذج ممّا قيل في وصف “بغداد” و”سامرّاء” و”البصرة”، لا تخرج في أساليبها عن: بيان الأولى بأنها أُمّ الدُّنيا وسيّدة البلاد وجنّة الأرض، وبيان الثانية بأن حصباءها جوهر ونسيمها مُعطّر وترابها مِسكٌ أذفر، والثالثة بأنها أوفى البلاد طُهرةً وأزكاها فِطرة وأفسحها رُقعة. ويورد مُترجم هذا الفصل من الكتاب أُسلوبين آخرين في الوصف؛ أحدهما “لابن جُبير” في وصف أرض “نجد”؛ يقول فيه: “وما أرى أن في المعمورة أفسحُ بسيطاً، ولا أوسع أُفقاً، ولا أطيب نسيماً، ولا أصّح هواءً من أرض نجد”. والثاني في وصف “الأندلس” بأنها شاميّة في طيبها وهوائها، ويمانيّة في اعتدالها واستوائها، وهنديّة في عطرها وذكائها. وفي العصر الحديث، نجد للأديب الرحّالة “أمين الريحاتي” قُدرة فائقة على وصف الطبيعة والمُدن، وتزوّد بأدوات هذه المُهمّة؛ من دِقّة الملاحظة وسُرعة التأثّر وعُمق التفكير ونفاذ البصيرة. يقول الريحاني في وصف “وادي الجماجم” في “لبنان”: “هناك قُدرة الخالق الأعظم على مزج اخضرار الأرض بزُرقة السماء، وذهب الشمس بفضّة السُّحب الشفّافة.. فتبلغ في التلوين حدّ الإعجاز؛ الذي يتوق إليه -وعبَثاً يُحاول إدراكه- الفنّانون”. ويقول: “وادي الجماجم في الزمان الغابر وادي الروائح الذكية، وفي هذا الزمان تسمع فيه صرير الجنادب، وتصدح فيه أناشيد الوروار، وتُغرّد فيه الحساسين، وإنك لتسمع أيضاً من حينٍ إلى حين وقعَ حوافر الدّواب وهي تصعد أو تنزل في مدارجه”. وإذا كان كتاب “قلب لبنان” للريحاني متحفاً ورَقيّاً لجمال الطبيعة في لبنان، فإن كُتب الريحاني الأخرى في أدب الرحلات تزخر بالكثير من الصّور الجميلة. ولنستمع إلى وصفه لمظاهر أحد الأعياد “بأشبيلية”، حين يقول: “وهناك عربات النقل الكبيرة، وقد كُدّستْ فيها النساء بعضهن على بعض؛ أسراب منهُنّ في أثواب العيد الزاهية الألوان، كأنها قطعة من قوس قزحِ تجُرّها الثيران”! ويستصحبنا الريحاني مع رفاقه وهم يصعدون في جبل “بوعان”، وهُم في طريقهم من “اليمن” إلى “عسير، وعند أعالي الجبل: “صفرتْ فيه الرياح وأعلمتنا بمظهرٍ من مظاهر الطقس غريب: إنما الشمس شمس الصيف، شمس اليمن المُحرِقة، وإنما الزهور زهور الربيع، أما الهواء فلا ربيع فيه ولا شيء من الصيف؛ كنتُ إذا أغمضتُ عيني أظُنّ نفسي في أعالي لبنان في الشتاء.. هذه فصولٌ ثلاثة في وقتٍ واحد”! إننا نرى الريحاني لم يكُن يمُرّ بالمُدن مرور الكرام بل يراها كالناس، وروح المدينة في نظره تتبلوَر في أكثر مظاهر الحياة، فتسِمها بوسمها الخاصّ.. اسمعهُ يقول: “إن روح “نيويورك” الفخر والتّباهي؛ فكأنها تقول: كلّ ما عندي هو مثل هذه الناطحات السحاب، كلّ شيء عندي ضخم عظيم، وروح “لندن” الأناقة: كلّ ما عندي مشمولٌ بالتدبير والترتيب والتنظيم، وروح “باريس” الزهو والمرح: ومَن مثلي حُسناً وبِشراً وازدهارا”؟ وفي كتابه “ملوك العرب”، زار الريحاني “الرياض” في عام 1922، واسترعى انتباهه الإحساس الجمالي، والتعبير عنه بالنقوش على الجبس الأبيض في جُدران المنازل، والأبواب بالألوان المتعدّدة، ويقول: “أقفُ دائماً وأنا في غاية السرور أمام أحد تلك الأبواب، ذات الرسوم المتشابكة، والمطلية بالألوان الأساسية (الأزرق والأخضر والأصفر)، كما لو كان لوحةً زيتية مرسومة على قماش، التصاميم غير مُتناهية في تنوّعها، تسير وفق نزوة الفنّان، على أن هناك دائماً خُطّة مُتخيَّلة ذات أشكال هندسية مُتناغمة، وتمّ تنفيذها بأناقة”. ولم يكتفِ بلقب “باريس نجد” الذي أطلقه على “عُنيزة” حين زارها، بل أضاف: “عُنيزة قُطب الذوق والأدب وباريس نجد، وهي أجمل من “باريس”.. إذا أشرفتَ عليها من “الصفراء”، لأن ليس في باريس نخلاً، وليس لباريس منطقة من ذهب النفود، بل هي أجمل من باريس حين إشرافك عليها، لأنها صغيرة وديعة خلّابة بألوانها، كأنها لؤلؤةٍ في صحنٍ من الذهب مُطوّق بالّلازّورد”!