كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُحسّن خدمات المكتبات؟

من خلال خبرتي العملية في مجال المكتبات والمعلومات، يراودني تساؤل: كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُغيّر واقع العمل داخل المكتبات؟ هل يستطيع تبسيط الفهرسة والتصنيف، وتسريع الوصول إلى المعرفة بدقة أكبر؟ وهل يمكن أن يدعم الموظفين في تقديم خدمات مرجعية فعّالة والإجابة على استفسارات المستفيدين بسرعة وبأسلوب لبق؟ في أغسطس الماضي، نظّمت هيئة المكتبات لقاءً حواريًّا افتراضيًّا بعنوان “استخدامات الذكاء الاصطناعي في المكتبات”، خصص لاستعراض أحدث التطبيقات الذكية التي يمكن توظيفها في هذا المجال، بدءًا من محركات البحث المتقدمة، مرورًا بأنظمة التوصيات الشخصية للقراء، وصولًا إلى الروبوتات المساعدة وأدوات دعم الوصول إلى المعرفة. أثناء قراءتي عن هذا اللقاء، أدركت حجم التحولات الجذرية التي يشهدها عالم المكتبات اليوم، وكيف أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من هذه الرحلة نحو المستقبل. فالمكتبات لم يعد دورها محصورًا في الحفظ والإتاحة فقط، بل أصبح لزامًا عليها استثمار قدرات الذكاء الاصطناعي في تبسيط الإجراءات الفنية، تطوير خدمات البحث، وتحسين تجربة المستفيدين عبر أنظمة ذكية تضمن سرعة الوصول إلى المعرفة ودقة النتائج. من هنا، تتسع دائرة النقاش حول التطبيقات القادرة على إحداث نقلة نوعية داخل مراكز المعلومات، سواء من خلال أتمتة الفهرسة والتصنيف، أو تصميم حلول مخصصة تلبي احتياجات كل مستفيد على حدة، أو توفير أدوات ذكية تساعد الموظفين والزوار على حد سواء. مهام مثل الفهرسة والتصنيف تستنزف وقتًا طويلًا من المفهرس، الذي يضطر لإدخال البيانات الوصفية يدويًا لكل كتاب أو مادة جديدة، وهو ما يجعل التعامل مع مجموعات كبيرة أمرًا شاقًا وبطيئًا. لكن مع دخول تقنيات الذكاء الاصطناعي تغيّر المشهد؛ إذ يكفي اليوم إدخال عنوان الكتاب أو نبذة قصيرة عنه في تطبيقات ذكية مثل ChatGPT أو Gemini، لتتولى الخوارزميات تحليل المحتوى واقتراح بيانات وصفية دقيقة، تشمل الموضوعات الرئيسة والكلمات المفتاحية والربط بأنظمة التصنيف المعتمدة مثل ديوي أو غيره، مما يجعل العملية أسرع وأكثر دقة ويخفف العبء عن المفهرس. كما تسهم هذه الأدوات في تقليل الأخطاء البشرية وتحسين جودة البيانات، لتسمح للمفهرس التركيز على الجوانب التحليلية والفكرية للمكتبة بدلًا من الانشغال بالمهام الروتينية. وبذلك تتحول المكتبات إلى بيئات أكثر ديناميكية وكفاءة، ليصبح تنظيم المعرفة واكتشاف المعلومات أسرع وأدق، مع تعزيز تجربة المستفيدين في الوصول إلى الموارد بشكل مخصص وشخصي. ومن الآليات التي يمكن أن توظفها المكتبات عبر الذكاء الاصطناعي تحليل الصور التاريخية. فمراكز المعلومات، وبالأخص المكتبات الوطنية، تحتفظ بأرشيف ضخم من الصور النادرة. وهنا يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي أن تقوم بدور محوري في قراءة هذه الصور وتحليل محتواها، وإنتاج أوصاف دقيقة لها تساعد في الفهرسة والوصول إليها بسهولة. كما يمكن أن تساهم هذه الأدوات في تقدير تاريخ الصورة، وربطها بالسياق التاريخي المناسب، بل وأيضاً تحسين جودتها الرقمية بما يحافظ على قيمتها ويوسع من إمكانية الاستفادة منها في البحث العلمي والمعرفة العامة. مثال على ذلك استخدام مكتبة الكونغرس الأمريكية لمشروع Civil War Photo Sleuth، الذي يستخدم تقنية التعرف على الوجوه لتحديد هوية الجنود غير المعروفين في صور الحرب الأهلية الأمريكية، حيث يقوم بتحليل الملامح ومقارنتها بآلاف الصور الأخرى في الأرشيف، مع دمج معلومات إضافية مثل زي الجندي أو الشارات، ليوفر للباحثين أدوات فعالة لفهم السياق التاريخي وربط الصور بمعلومات زمنية دقيقة. وليس الاهتمام منصبًا على الصور التاريخية فقط، بل يشمل أيضًا الوثائق القديمة التي تزخر بها المكتبات الوطنية. فقد أصبح بالإمكان اليوم الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحليل النصوص التاريخية، ليس من حيث مضمونها القانوني أو الإداري فحسب، بل أيضًا من زاوية المشاعر والانفعالات التي تحملها تلك النصوص. ويُعرف هذا المجال باسم تحليل المشاعر (Sentiment Analysis)، حيث تعمل الخوارزميات المتقدمة على استكشاف توجه كاتب الوثيقة، وما إذا كان النص يعكس موقفًا انفعاليًا معينًا أو يتسم بالحياد. هذه التطبيقات فتحت الباب أمام قراءة جديدة للوثائق؛ إذ يمكن عبر أدوات مثل معالجة اللغة الطبيعية والتعلم الآلي والتعلم العميق، تحليل آلاف الوثائق التاريخية لاكتشاف أنماط شعورية وسياقات اجتماعية وثقافية لم تكن واضحة من قبل. أما بالنسبة لما يتعلق بخدمة المستفيدين، فقد أصبح الذكاء الاصطناعي شريكًا مباشرًا في تحسين تجربتهم داخل المكتبات. فمن خلال أنظمة التوصية الذكية، يحصل القارئ على اقتراحات مخصصة تناسب اهتماماته وسجل قراءاته. فمكتبة Oodi بفنلندا برزت كمثال عملي على توظيف الذكاء الاصطناعي في خدمة القراء، حيث أطلقت المكتبة تطبيقًا ذكيًا يحمل اسم Obotti. يتيح هذا التطبيق للزائر اختيار “شخصيات افتراضية” تمثل أنماطًا قرائية مختلفة، مثل الأدب الكلاسيكي أو الروايات البوليسية أو كتب الأطفال، ليقترح من خلالها عناوين تناسب اهتماماته. ومع تكرار الاستخدام، يتعلم التطبيق من تفضيلات القارئ ليقدم توصيات أكثر دقة، كما يمكن ضبطه ليعرض فقط المواد المتاحة في المكتبة لحظة البحث، أو ليقتصر على كتب الأطفال واليافعين. وبذلك يتحول Obotti إلى مساعد شخصي يختصر على المستفيد عناء البحث الطويل بين آلاف العناوين، ويمنحه تجربة قرائية ملائمة لذوقه. وعلى صعيد الرد على استفسارات المستفيدين، فقد بدأت مكتبات عدة باستخدام بوتات الدردشة الذكية لتقديم الدعم المباشر على مدار الساعة. وعلى سبيل المثال، تشير معلومات موقع مكتبة جامعة كالغاري إلى أن بوت TRex “روبوت دردشة يعمل بالذكاء الاصطناعي ويتيح لك طرح جميع أنواع الأسئلة حول المكتبة والموارد الثقافية”، مثل معرفة البرامج الحالية، كيفية حجز غرفة للدراسة، أو التواصل مع موظف للمساعدة. ويُضاف إلى ذلك أنه مدرّب على جميع المعلومات الموجودة على موقع المكتبة، بما في ذلك صفحات البرامج، الأدلة البحثية، المستندات المرفقة، والدلائل، ما يجعله قادرًا على تقديم إجابات دقيقة لمجموعة واسعة من الاستفسارات. ويُذكر الموقع أيضًا أن البوت “يتحسن مع التغذية الراجعة من المستخدمين”، حيث يمكنهم تقييم الإجابات لمنح TRex فرصة التعلم المستمر. وفي السياق ذاته، شهدت الدول العربية مؤخراً اهتمامًا متزايدًا بتبني الذكاء الاصطناعي في المكتبات وعملياتها المختلفة، وهو ما انعكس بشكل واضح في قمة دبي الدولية للمكتبات والنشر 2025، التي تنعقد تحت شعار «مستقبل صناعة النشر» خلال الفترة من 30 أكتوبر إلى 1 نوفمبر 2025. حيث تركز القمة على استعراض التحولات الرقمية والابتكارات التكنولوجية، مع إبراز دور الذكاء الاصطناعي في تحسين الفهرسة، البحث، والخدمات المرجعية، وتسهيل وصول المستفيدين إلى المعرفة بسرعة ودقة. وتمثل القمة منصة استراتيجية لتبادل الخبرات والتوصيات العملية بين المؤسسات العربية والدولية، بما يعزز قدرة المكتبات على مواجهة التحديات المعاصرة وتقديم خدمات مبتكرة ومتكاملة للجمهور. إذاً نستنتج من هذا الطرح أن الذكاء الاصطناعي لم يعد ترفًا، بل ضرورة حتمية للمكتبات في العصر الرقمي. بتوظيفه، يتحرر العاملون من الأعمال الروتينية لتقديم المعرفة بكفاءة وسرعة. وستصبح مراكز المعلومات جسورًا حقيقية بين الفكر البشري والقدرات الرقمية، تضمن وصول المعلومات لكل مستفيد في أي زمان ومكان.