العمل إطار للحياة..

كيف نؤثر فيه ويؤثر فينا.

يستيقظ الشخص العامل مع أول خيط ضوء، مثقلًا بأحداث الليلة الماضية، غير معذور بظروفها، أو محمّلًا بأثر أفراحها وأتراحها، آملاً البقاء في تلك اللحظة للأبد، لكنه ينهض مسؤولًا عن اليوم وما يحمله هذا الصباح. يدوي صوت المنبه من حوله، ويطرق في رأسه وتحديدًا على موضع الأفكار المتخاذلة فيه، ينقلب على الجنب الآخر فيلمح الساعة، ينهض سريعًا وكأن الزمن يلاحقه مكشرًا عن أنيابه، يختار ملابسه على عجل ويتناول فطوره واقفًا، ثم يمضي حيث الطريق ذاته كل يوم، وإن كان لديه متسع من الوقت كافأ نفسه برفاهية أن يختار طريقًا آخر إلى وجهة ثابتة. وفي الجهة الأخرى ينهض الباحث عن عمل، متى ما شاء لجسده أن يفيق، مدفوعًا بالبحث عن وجهة، أو ناشدًا للسكون، حرًا طليقًا لا يقيده سوى ما يختار بنفسه من قيود، يجتهد يومًا بالبحث عن عمل من خلال التطوير الشخصي والتعلم المستمر، ويسعد يومًا آخر بهذه المساحة التي تمكنه من العيش بخفة، يضغط عليه هذا الفراغ أكثر من امتلائه، ويتيح له مرات أخرى أن ينأى أكثر من سواه. وبين الحالتين تتجلى صورة واحدة: العمل - بمفهومه الواسع ليس الوظيفة فحسب - بمثابة إطار ينظم فوضى الحياة في حضوره أو غيابه، كما يمتد إلى ذات الإنسان وكوكبته النفسية. يرى سيمجوند فرويد أن الصحة النفسية ترتكز على قاعدتين: الحب والعمل. القدرة على حب الذات وحب الآخر على حد سواء، فالحب يعزز شعور الانتماء مما يعد من الحاجات الأساسية للتوازن النفسي، أما العمل في نظر فرويد فهو الكفاءة والجدوى وتحقيق الذات حيث ينتج الفرد من خلاله بما يساهم في مقاومته للاضطراب النفسي، إن الحب والعمل بمثابة درع في وجه تحديات الحياة وقواعد بناء للصحة النفسية، ولكن .. متى علينا أن نحمي أنفسنا من هذا الحب أو هذا العمل؟ وهنا تنكشف جدلية عميقة: هل نحن من نطوّع العمل ليتلاءم مع إيقاع حياتنا أم أن العمل هو من يشكّل حياتنا وفقًا لشروطه ومتطلباته، وكيف نضع الحد الفاصل بين الأمرين؟ إن العلاقة بيننا وبين العمل علاقة متبادلة وليست أحادية، حيث نؤثر فيه ويؤثر فينا، وفي هذا التأثير يصاغ يومنا وتتبلور هويتنا وننمو أو نضمحل. والذي يحكم الفارق هنا عدة متغيرات متداخلة: طبيعة العمل، مجال العمل، أساليب القيادة في المؤسسة، بيئة العمل المادية، خبرات الفرد، خلفيته الثقافية، مرونته النفسية، قدرته على التكيف، مدى توافق قيمه الشخصية مع قيم المؤسسة. فعلى سبيل المثال: شخص لديه قيمة الصدق أو الوضوح والشفافية أو العدل عالية، في بيئة عمل تهمّش ذلك، فإن نسبة الصراع النفسي هنا أعلى والقدرة على الموازنة أصعب. إذن فإن العمل منظم للحياة إذا أجاد الفرد الموازنة بينه وبين متطلبات الحياة الأخرى، حيث للعمل سطوته على الوقت فتصبح المهام والأعمال واللقاءات تابعة لساعات العمل وحتى العطلات وأوقات الراحة والفراغ. وحسب طبيعة كل عمل وحسب تطلعات كل فرد واهتماماته، تكون الإدارة الأسبوعية كحياة خاصة بالفرد لا مسرح عرض تديره الحياة المهنية. كما أن لأي عمل التأثير على نوعية العلاقات الاجتماعية الممتدة بين الفرد والآخر، ولا تخفى سطوته على الهوية والمهارات الشخصية، كما البيئة المادية للعمل أيضًا لها الامتداد الذي يترك بصمته على العادات أو السلوكيات. العمل فضاء للتأثير الذاتي عندما يخالف العمل توقعاتنا فإن إرادة الإنسان هي الأداة المساندة التي تجعل من هذا العمل مساحة يمارس فيها الفرد وجوده بشكل مؤثر. ينظر روجرز إلى الإرادة كطاقة داخلية مرتبطة بعملية تحقيق الذات، تعكس حرية الفرد في أن يكون أصيلًا مع نفسه وأن يسلك الطريق الذي يقوده نحو إمكاناته الكامنة. ومن هذا المنطلق، يمكن فهم الإرادة عند روجرز في عدة أبعاد رئيسية:  • التركيز على الذات والنمو الشخصي: الإنسان يمتلك قدرة فطرية على النمو والتحقيق الذاتي (Self-actualization). الإرادة ليست مجرد قوة للقيام بالواجبات، بل محرك داخلي يسعى لتحقيق إمكانياته الكاملة.  • الإرادة كأداة للتغيير: تمكّن الفرد من توجيه سلوكه بما يتوافق مع قيمه ومبادئه، حتى في ظروف صعبة أو ضاغطة.  • العلاقة بالعمل: يمكن أن يصبح العمل فضاءً يمارس فيه الفرد إرادته، ليحوّل المهام الروتينية أو الضاغطة إلى فرص للتعلم، الإبداع، وتحقيق الذات.  • المقاربة الإنسانية: الإرادة ليست قسرًا خارجيًا، بل قوة داخلية تتناغم مع الرغبة في الصلاح والتطور الشخصي، وتساعد الإنسان على إيجاد معنى ورضا حتى في الأطر المحدودة أو المعقدة. أما من جانب فيكتور فرانكل فيما يتعلق بهذا السياق، فإن أداة النجاة هي القدرة على خلق معنى من التجربة، فقد انبثق العلاج بالمعنى نتيجة المعاناة في معسكرات الاعتقال النازية، حيث وجد فرانكل أن الأشخاص الذين استطاعوا إيجاد معنى شخصي لتجربتهم (حتى لو كان الحلم بمستقبل أفضل) كانوا أكثر قدرة على الصمود، بينما الذين فقدوا الشعور بالهدف وضاع منهم المعنى انهاروا نفسيًا وجسديًا. إن العمل بنجاحاته وصراعاته وعلاقاته المختلفة ومواقفه اليومية المتباينة يعد بمثابة تجربة مصغرة للحياة فهو ليس مصدرًا للدخل فحسب. قد لا يوجد عمل مثالي، ومثلما نجا فرانكل من قسوة المعسكر عبر خلق معنى لحياته اليومية، يمكن للفرد في بيئة عمل صارمة أو مقيدة أو فوضوية أن يحول دوره ومهامه إلى مساحة ذات معنى، حيث تصبح الدافع للصمود والتأثير وتحويل مصدر الضغط إلى فرصة للنمو والتغير. وهذا بالطبع لا يبرر ضعف الإدارة في المؤسسات، إنما يمنح الفرد بوصلة الاختيار، فإن هناك خطوط عريضة على الفرد ألا يسمح بتجاوزها بحجة (ضغط العمل)، فإننا في مجتمع متحضر في زمن أكثر انفتاحًا وتنوعًا في الفرص والخيارات. إن العمل ليس مجرد إطار زمني لحياتنا، بل مرآة تعكس وعينا بذواتنا، وحين نضع له حدودًا واضحة ونغرس فيه معنى شخصيًا، يتحول من عبء يستهلكنا إلى مساحة تجعلنا أكثر اتساعًا وحكمة.