قراءة في رواية فقيد السرد العربي جبير المليحان الأولى (أبناء الأدْهم)..

أيقونة الفن السردي العربي الحديث.

ليس هذا من باب المبالغة أو الزينة اللفظية ، فهو حقيقة لاتقبل النقاش ، فقد نذر جلّ اهتمامه لهذا الفن تأليفاً ونشراً و تنظيماً و تعريفاً ، فهو الذي عمل على نشر إبداعات القاصّين العرب، فأسس موقعاً إلكترونياً جامعاً للقصة القصيرة السعودية و العربية باسم «القصة العربية»، يضم نحو ألفي أديب وقاص يمثلون واحداً وعشرين دولةعربية، وهو ينشر نصوصًا لأكثر من أربعة آلاف قاصٍ وقاصة بأسماء حقيقية، ولديه مخزون من السرد يتجاوز 18 ألف نص قصصي، وعدد المشتركين يتعدى عشرين ألفًا وأصبح هذا الموقع مشروعاً ومنتدى للمبدعين في هذا المجال، ينشر النصوص ويحظى أصحابها بالقراءات النقدية وتبادل الخبرات والتواصل الثقافي بين المبدعين العرب. وقد انتقل إلى الرفيق الأعلى مخلّفاً ثروة إبداعية سردية من القصة القصيرة والرواية ، وقد رأيت أن أقدم قراءة موجزة لأولى أعماله الروائية (أبناء آدم) التي ألفها في هذه الحقبة في إطار العودة إلى الماضي وفضاءات المكان و البيئات تأصيلا للهوية ، و تأكيداً للانتماء على امتداد المساحة الشاسعة التي يحتلها الوطن العربي السعودي بتضاريسه المتنوعة، ما بين صحراء شاسعة و فيافي ممتدة وسهول ممرعة و مرتفعات شاهقة، وبحر لُجيٍّ زاخر باللآليء ومحتشد بأنواع شتى من الكائنات البحرية ونخيل وارف الظلال ، تأكيداً وتأصيلاً للانتماء وجلاء للهويات الصغرى في إطار الهوية الجامعة الكبرى، وطناً ثريّاً بالثروات المادية و الأمجاد المعنوية تأتي هذه الرواية التي تضم باقة متنوعة الألوان و السمات من القصص و الحكايات: فكاتبها شديد الولاء لفنّه الأثير القصة القصيرة التي كأن أحد روادها المجدّدين ؛ فقد يمّم وجهه شطر معلميْن حضاريين رئيسين (أجا وسلمى) بما يحيط بهما من مناخات أسطوريّة ودلالات رمزيّة في منطقة عشقت التاري مُستظلاً بما زخرت بها كتب التاريخ والحكايات الشعبية حول قصة عشق ، ومشاهد وحكايات دارت أحداثها في أحضان كهوفها ومنعطفاتها بما انطوت عليه من صعوبات و تحديات ومشاعر إنسانية وتقلّبات و وقائع وهواجس وهموم إنسانيّة يقدّم عملاً أصيلاً وجديداً في مضمون حكاياته المشوقة لشخوص تدور حياتها ومصائرها في حضن جبل صعب المرتقى وعنيد المنتهى، هذا الجبل الأدهم يقع في منطقة حائل ، والرواية تحاول أن تكشف لنا رمزيّة تسمية الجبل بهذا الاسم رقيق الإيقاع خفيف على اللسان واضح البيان ، حكاية تاريخية للعاشقين: الولد الراعي أجا وبنت الشيخ سلمى. اللافت هو اختيار اسم (أدهم) الذي له إيحاءات متعدّدة ، بعضها مرتبط باللون ، وهو الأسود الذي يضرب إلى الحمرة أحياناً ويوحي بالصلابة و القوة و ربما الأصالة أحياناً أخرى ؛ والإيقاع الصوتي – كما لدى نجيب محفوظ في روايته (أولاد حارتنا) - الذي أومأ فيه إلى أبينا (آدم عليه السلام) في رواية ( أبناء الأدهم ) يوميء الكاتب إلى عالم الصحراء فضاءً مكانيّاً يحمل ملامح الهوية والثقافة بخصوصيتها البيئية و الاجتماعية المألوفة والنزعة التهجينية التي تبدو فيه الهوية في مرحلة التحول و التشكل انتقالا من مرحلة إلى أخرى ، تنطوي على التوازي و التقاطع بين القيم المطلقة في تعالقها مع الوجدان النقي المتصل بالحب في مطلق جوهره القيمي الذي تعكسه العلاقة مع الأسطورة بوصفها مدخلاً إلى مطلق المعرفة الحقيقية التي تتّسق مع الفطرة البشرية و خصوصية العلاقة مع البيئة ، لهذا يتوارد في الرواية ما هو شائع من حكايات شعبيّة تلامس سقف الأسطورة في بنيتها وأفقها التفسيري لبعض ظواهر البيئة التي تبدو غير متّسقة مع طبيعة الصحراء ؛ فالجبال في البيئة الصحراوية ظاهرة مناقضة لها في انفتاحها غير المحدود واتساعها ؛ فضلاً عن التسميات التي يتساءل البعض عن مصدرها ؛ وبدا لافتا أن يطلق اسمي ( أجا وسلمى) على الجبلين اللذين اشتهرا في حائل، وهما علمان لمذكر و مؤنث ؛ فكانا مدعاة لنشوء أسطورة حولهما ، وقد نشأ على هامش هذه الأسطورة حكايات متعدّدة استثمرها الكاتب في تفريع الوقائع في هذه الرواية ، وهو الذي عرف بكتابة القصة القصيرة ؛ مما يشبع رغبته في ممارسة اهتمامه الإبداعي بهذا الفن من فنون السرد في إطار عمله الروائي الأول؛ وكان من الطبيعي أن ينبش في أغوار التاريخ ما ينسجم مع منطق الأسطورة و الحكايا التي يجمعهما منحى السرد ، وكانت طبيعة التواصل بين النوعين الذكر و الأنثى في هذه الصحراء الشاسعة أن يتمخّض عن قصة عشق ، تتمظهر فيها ألوان من الوصل و الهجر و ما هو معهود في مثل هذه الحكايات نص روائي ، فيه صور ومشاهد وحكايات حب، وما تصادفه من تحدّيات في زمن الفقر و العوز وشظف العيش ، مصوّرةً الهواجس و المشاعر و المخاوف و العذابات ، وما يدور من مقلقات نفسيّة واجتماعية لدى شخصيات الرواية . يركز الكاتب في النص على ولادة حكاية حب عفوية، يلاحق تفاصيلها وتفاصيل حيوات متعدّدة وأجيال مختلفة لشخوص عاشت في حضن هذا الجبل الكبير، ولكن الأصل فيها حكاية تسمية جبلَي أجا وسلمى في حائل، اللذين سُميا على اسمي رجل وامرأة نشأت بينهما قصة حب تخالف سنن الحياة وتقاليدها في مجتمعهما وتتناقض وقيمها، وتزوجا أيضًا؛ فكان ذلك تحدّياً أفضى بهما إلى الموت في أحضان تلك البقعة بين جبلي (أجا و سلمى) فسُمِّيا باسمهما. قصة نشأت في حضن الجبلين ،وانتهت وكانت نموذجا لما ينشأ من علاقات إنسانية قائمة على الحب والجمال و المشاعر الإنسانية و الوجدانية . وربما كان الفضاء المكاني في خصوصيته وتفرّده وشموله وغرابته ما يلفت الانتباه في هذه الرواية ، و هو ما يمنحها مَيْزة مهمة ترقى بالمكان فيها إلى حدّ البطولة وفقا لما عرف عن فن الرواية الحديثة من استبدالها بالبطولة البشرية المعتادة ، خصوصا حين تتشابه الأدوار والمصائر فتجعل من المكان الذي تدور فيه الأحداث أو الأشياء رمزاً لهذه البطولة ، فهي في أودية، وشعاب، وحياتهم حياة البدو في كل ما يتصل بها من قيم وعادات، في اللغة، والمأكل، والملبس، واقتناء الإبل والغنم، والرعي، والعيش على الغزو، والسطو ، ولكنهم مستقرون، ويعملون بالزراعة مثل أهل الحاضرة، وهي مفارقة كبيرة؛ إذ إن أهل الزراعة والتجارة كما يعمل «مران» في قريته الأولى والثانية تختلف عن حياة البادية كما هي حياة الأسرة الأولى، وحياة والد «منهاد». وهذه الأسر متصلة فيما بينها، مترابطة العادات، والأعراف. يستثمر الكاتب الوصف في انتقائيته وتركيزه على التفاصيل التي تبرز الخصوصية في أدق دقائقها و السرد في متوالياته الوامضة الكاشفة واقتناصها لمذخورها الدلالي عبر السياقات المختلفة ، ولهذا بدت الرواية جملة من السيناريوهات و اللوحات و الحكايات التي تشكل عالمها الروائي في صياغات تبرز معالمها ، وتكشف عن ظواهرها المستكنّة في مذخورها الضمني التي تنطوي على ألوان من الفنون وأشكال وتجليات تنطوي على الغناء والإدلاء بمكنونات النفس ، وتعبّر عن الأحزان و الأحلام و الأمنيات والهواجس النفسية و التجليات الروحية . ومن الأنساق المتشابكة و المتقاطعة رحلة صايل ومنهاد التي يلاحق فيها الكاتب أدق المعالم و تفاصيل المعاناة، ويتقرّى جغرافية المكان و أمداء الزمان والمعاناة في هذه الرحلة المضنية حيث دقة الوصف ودأب البحث عن كينونة مستقلة آمنة ، ف(منهاد) التي تزوجت الراعي صايل ورفضت الاقتران بابن عمها (عابر) الذي يحبها أدركت دقة الموقف وخطورة المغامرة في تلك البيئة التي لا تعترف بالاختيارات الحرة ؛ بل بل قدّ توقّر التقاليد ؛ ولهذا حذّرت صايل من العواقب : “لا بقاء لنا بعد موت أبي، سنهرب بحبنا قبل أن يقتلونك”. على الرغم من علمها بما ينتظرهما جرّاء ذلك من معاناة وما سيكلفهما هذا التمرد من ثمن باهظ ، ولعل الكاتب كان يحاول أن يستشيم الآتي ويرصد آفاقاً جديدة للأجيال القادمة التي تنحو منحى الخروج من هذا المأزق الحضاري والتأسيس لثقافة جديدة ، أبطالها كل من أجا والمران وسلمى ومنهاد، حيث يحرك النص محاولة مرّان الانتقام من أجا وسلمى، ثم ولادة سهل بن سلمى بن أجا، الذي جاء بعد عاصفة المطر ودانت له الأرض في النهاية. وكما هو واضح ممّا لا تخطئه القراءة الناقدة أن الكاتب استثمر تقنية “التقطيع السينمائي” حيث اعتمد الكاتب تقسيم النص إلى فصول قصيرة وعناوين محورية توميء إلى خصوصية النهج الذي سلكه في كتابة القصة القصيرة كما وظّف الحلم و الأسطورة اللذين تقاطعا في مهمة تفسيريّة كاشفة لعوالم الشخصيات الداخلية و النسق الثقافي المضمر لتلك المجتمعات. هذه الوثيقة توفّر قيمة معرفيّة كبيرة في فهم الجانب الفني والتشكيل السردي للرواية كاشفة عن أسلوب التشكيل للحبكة بوصفها جوهر البنية السردية في الرواية و مرآة لملامح الرؤيا في النص ، تلك التي تتشكل في فضاء السرد باحثة عن قسمات الهوية الاجتماعية في ارتباطها بالبيئة المكانية و ملامحها الحضارية و آفاقها المستقبلية وشخصية الأدهم التي تمثل محورا من المحاور الرئيسة في الرواية من الأصول التي نبتت منها القبيلة وما توميء إليه من ملامح اجتماعية تنطوي على الجذور التي شكّلت طبيعة المجتمع بثقافتها الأسطورية واتكائها على مبدأ القوة و الهيمنة وما سبق أن أشرت إليه من إيحاءات (الأدهم) لغويا و تاريخيا فهو يحضر في الرواية كرمز للجد المؤسس، وهو شخصية شبه أسطورية مرتبطة بالتراث الشعبي (أسطورة أجا وسلمى).ويعكس قيم القوة والهيمنة والارتباط بالذاكرة الجمعية. أما الأبناء (أبناء الأدهم) فيتوزعون على أجيال مختلفة، مما ينبيء بمما سيحدث من تحولات اجتماعية من صراعات تتصل بالانتماء والكينونة و ملامح الهوية؛ لهذا يحاول الكاتب أن يتبين الأواصر التي تصل الواقع الراهن بالماضي ويفسّره عبر نهج اسقاطي تبنى العمل على كشف ملامحه .أما الشخصيات الثانوية من النساء على اختلاف الأواصر بينهن وبين الشخصيات الرئيسة فأدوارهن محدودة بوصفها مرآة لما كان عليه المجتمع النسائي دون خصوصية ذات قيمة في تطور الوقائع والأحدات ؛ وكذلك الشخصيات الأخرى (أهل الوادي، الغرباء، الشيوخ): تضيف عمقاً اجتماعياً وثقافياً، وتعمل على إثراء تعددية الأصوات.؛ أما الشخصيات الأسطورية (أجا وسلمى) فهي تشي بتقنية فنية تناصية . وروايته هذه وأعماله السردية الأخرى تستحق دراسة عميقة شاملة و موسّعة.