المثقف الحقيقي والمثقف المزيّف:

رحلة في أعماق الثقافة الحقيقية.

منذ أن وُجد الإنسان وهو يبحث عن معنى يتجاوز حدود البقاء البيولوجي، كان للمعرفة دورها في صناعة الوعي وتشكيل الحضارات. ولعلّ ما يهدد المجتمعات ليس غياب الثقافة بقدر ما هو التباسها، حين تختلط صورة المثقف الحقيقي بالمثقف المزيّف. في عصرنا الذي تتسارع فيه المعلومات كسيل جارف، أصبح لقب “مثقف” يُطلق على من يقرأ كتابًا أو يكتب تغريدة فلسفية، وكأن الكلمة فقدت معناها العميق. هناك من يعلن عن نفسه مثقفًا، وهناك من يُمنح اللقب لأنه يملك آلاف المتابعين أو لأنه يتقن فن الظهور الإعلامي. لكن هل تساءلنا يومًا: ما هي الثقافة الحقيقية؟ الثقافة ليست مجرد تراكم للمعارف أو حفظ أسماء الكتب والمؤلفين. إنها عملية حيّة، ديناميكية، تجمع بين المعرفة والتأمل والعمل. وقد عرفها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط بأنها “التحرر من الوصاية الذاتية”، أي القدرة على الاستقلال الفكري والتفكير النقدي. ومن هنا ندرك أن المثقف الحقيقي ليس من يستعرض معلوماته، بل من يجعل المعرفة أداة لفهم العالم وتحسينه. المثقف الحقيقي يقرأ ليُسعد، يناقش ليُثري، ويشارك ليبني عالمًا أفضل. إنه يضع المعرفة في خدمة الإنسان والمجتمع، لا في خدمة ذاته أو شهرته. أما الثقافة المزيّفة فتتوقف عند القشرة: كتاب يتحول إلى ديكور على رف، واقتباسات تُستعمل للزينة، وحوارات فلسفية تتحول إلى استعراض اجتماعي. المثقف المزيّف يردد ما يقوله الآخرون دون فهم، ويختبئ خلف لغة معقدة ومصطلحات مستوردة ليخفي فراغه. أما المثقف الحقيقي فيدرك أن المعرفة لا حدود لها، وأن التعلم رحلة لا تنتهي. إنه منفتح على الأفكار الجديدة، متقبّل للاختلاف، يؤمن أن الحوار البنّاء هو السبيل الأمثل للوصول إلى الحقيقة. يفكر نقديًا، يشكك في المسلّمات، ويربط بين العلوم والفنون والحياة اليومية. في تاريخنا العربي، نجد أمثلة حيّة على المثقف الحقيقي. ابن خلدون لم يكتفِ بقراءة التاريخ، بل وضع نظرية اجتماعية تشرح صعود الحضارات وسقوطها. وفي عصرنا الحديث برز مثقفون مثل أمين معلوف وإدوارد سعيد، الذين استخدموا ثقافتهم لمواجهة الاستعمار والظلم، مؤكدين أن المثقف ليس مجرد صاحب قلم، بل صاحب موقف. هؤلاء لم يعيشوا في أبراج عاجية، بل نزلوا إلى الواقع، وشاركوا في معارك الفكر والمجتمع. الثقافة الحقيقية تُترجم إلى أفعال ملموسة: مقالات توقظ العقول، ندوات تُثري النقاش العام، مبادرات تُعزز الوعي الجماعي. أما الثقافة المزيّفة فهي كفقاعة لامعة: جذابة من الخارج، فارغة من الداخل. صاحبها يعتمد على الظهور الإعلامي، يتناقل آراء الآخرين دون إضافة، ويجعل من الثقافة وسيلة للترقي الاجتماعي أو السياسي فقط. خطورة الثقافة المزيّفة أنها تُنتج جهلًا مقنّعًا، وتُضعف قدرة الأفراد على مواجهة تحديات كبرى مثل عدم المساواة الاجتماعية أو التغير المناخي أو الصراعات الفكرية. في عالم يغرق بالمعلومات السطحية، تصبح الثقافة الحقيقية ضرورة للبقاء، لا مجرد ترف للنخبة. فهي تبني مجتمعات قوية، قادرة على الإبداع والتكيف مع التحولات المتسارعة. في الوطن العربي، حيث نواجه تحديات التحول الرقمي وصراعات الهوية والتنوع الثقافي، نحن بحاجة ماسّة إلى إعادة اكتشاف المثقف الحقيقي. ليس بالضرورة أن يكون أكاديميًا، فقد يكون معلمًا أو فنانًا أو حتى مواطنًا عاديًا يملك شغفًا بالمعرفة ورغبة في خدمة مجتمعه. المثقف الحقيقي قائد فكري وقدوة، وصوته لا يقل أهمية عن صوت السياسي أو الاقتصادي في صياغة مستقبل الأمة. لكن الطريق إلى الثقافة الحقيقية يبدأ من كل فرد. أن نقرأ بعمق لا بسطحية، أن نناقش بصدق لا بمجاراة، أن نتعلم كيف نفكر نقديًا بدل أن نستهلك الأفكار الجاهزة. أن نشارك بفعالية في بناء فضاء ثقافي صادق، لا أن نتوقف عند الاستعراضات السطحية. الثقافة ليست ملكًا للنخبة ولا حكرًا على أصحاب الشهادات، بل هي مسؤولية مشتركة تجاه المجتمع والإنسان والمستقبل. جوهر الثقافة في “الكيف” لا في “الكم”، في أن تكون حياة تُعاش لا قناعًا يُرتدى. لقد آن الأوان أن نختار بوعي: هل نكون أسرى للمظاهر الزائفة، أم حَمَلة لجوهر الثقافة الحقيقية؟ فبقدر ما نستشعر هذه المسؤولية ونحملها بصدق، نستطيع أن نبني بروح الثقافة عالمًا أفضل.