في ديوان ( فزع البيدر ) للشاعر إبراهيم الحاجي ..
قدرة فائقة على الابتكار وتطويع اللغة والمفردة .

عرفتُ الشاعر المبدع السيد إبراهيم الحاجي عن كثب - كما يقال - منذ انضمامه لملتقى ابن المقرب قبل 14 عاما تقريبا جاءنا شابا طموحا ، متقد الذهنية ، حادَ الذكاء ، فاتحًا فكرَه وبصيرته للإبداع. والإبداع فقط لا شريك له. فكان شعلةً من تفكر شعري متقد ، ولهفةً متحفزة من طموحٍ راسخ ، وعطشًا لا يُطفأُ وقيدُه للكلمة الرصينة ، والمعنى الشفيف ، والإيقاع المُموسق المتناسق . وجدناهُ يخطو بوثباتٍ عالية ، فيما يحبو غيرُه في ميدان الإبداع. حتى استطاع وبجدارَةٍ أن يحتل مكانته التي يستحقها ، في قمة الإبداع ، بخيال مُتقد ، وفكر عميق ، وثقافةٍ عالية استطاعَ أن يُطوّع مخزونَها ليشكّل بها لغتها الخاصة . ففي الوقت الذي لم يستطع بعضُ مجايليه أن يخرجوا من عباءة مَن سبقوهم ؛ اختطّ هو لنفسه نهجه الخاص ، ورسم لوحته السريالية التي لا تشبه أحدًا. وفي اللحظة التي - كنا نراه فيها تأخر كثيرًا - لم يتعجلِ النشر ، وحين نستحثُه : أن غيره ممن لا يمتلك ربع أو عُشرَ موهبته تجاوزه بأربعة أو خمسة إصدارات يصرُّ هو أن موعده لم يحن بعد ، وأن تلك النبتةَ الحالمة في مخياله الجامح سيمرُّ عليه يومًا فيُروّضه ليتقبلها بقبول حسن . وربما أراد لثمرته أن تنضج تمامًا فيقطفها يانعة غضةً لا مرارة ولا حشفًا فيها. أو أراد لتلكَ الشتلةِ العابقة أن تتمردَ شذىً وتنفلتَ رائحة زكيّةً فيلمُّها في باقة تليق بها. والآن وقد أسعدنا بباكورته و( فزعِ بيدرِه ) وضعنا وجهًا لوجه أمام تجربةٍ متميزة، كنا نتشهاها من بعيد ، فوجدناها ماثلةً أمامنا ، وحاضرة بكل أناقة فوق موائدنا لنلتهمها ونتروّاها بكل لذة واشتهاء . فشكرًا يا خيمة المتنبي - حاضنةً وراعيةً ومتفضلةً على المشهد الأدبي - بهذا الطبق الشهي ، وبهذه المائدة العامرة بكل ماهو مختلف لذةً وطعمًا واشتهاءً. وهنا حين نحاول أن نلجَ عالم هذا الديوان الأنيق فإننا سنصافحه من عنوانه ، فالعنوان عتبةُ النص - كما يقال - ففيه يُختزل البعدُ الدلالي والمعنوي وغالبًا الإيقاعي لقصائده التسعِ والعشرين التي ضمها بين دفتيه. فمزج فيها العمودي بكل حداثته معنىً وإيقاعًا ، والتفعيلة بكل إيقاعها القوي ، ومساحتِها الحرة. ( فزع البيدر ) هنا يتجلى ما نُسميهِ الديوان القصيدة ، أو القصيدة الديوان ، أو هما معًا ممتزجين ببعضهما . فقد استلّ الشاعرُ بذكاءٍ عنوانه من عنوان قصيدة رآها تختصرُ باقتدار البعدَ الشعوري والتحريضي وكثيرًا الإيقاعي لكل الديوان. وكما نتفق جميعًا أن الاسم والمصدر أقوى بكثير من الفعل فالفزع هنا اسمًا يتجاوز بمراحل ( يفزع ) فعلًا وهنا ندركُ قدرة الشاعر على انتقاء مفردته التي لا تلامس دلالته فقط بل تقتحمه اقتحامًا يوصل معناهُ للمتلقي ويقنعه بكل قوة واقتدار. فحين يتمثل البيدرُ ( فزعَه ) فلا شك أن مواسم كثيرةً من الحصاد مهددةٌ بالتشظي والجفاف ، وأن يبسًا سيحاصره من ست جهات ، ليذروهُ في أعين منتظري مواسمِه شظايًا من أمل مسحوق. أمدُّ يديَّ بهذا الفراغ الطويل فأصطادني نورسًا حاملا وحشة الصمتِ لا يستطيع العبورَ قبالةَ شطآن هذي الليالي وحيدا وحيدا. هنا الحاجي في هذا النص وكأغلب نصوصه يقفُ متحفّزًا بسؤال عميق ، بأبعاده الفلسفية ، والمعرفية . وغالبًا العرفانية العقلانية التي تُحاول جاهدة أن تفتضَّ لغز بل ألغاز هذا الوجود. وللشعر عند الحاجي سمةُ التجلي والانصهار في النفس البشرية ليوقدَها أحاسيس مرهفة ، ومشاعر فياضة ، وفيوضاتٍ مُتقدة. فهو حين يعرّف الشعر كعتبة لقصائد الديوان إنما يتمثّله كيانًا يعبُر من خلاله إلى كل الأشياء. وهو لن يبحث عنه بين متاهاتِ الدروب التائهة ، أو عبر الوجوه الشاحبة ، وإنما يتسرب فيه كماءٍ رقراق : يتسربُ فيّ الشعرُ شفيفًا كالماءِ إلى الأعماقِ حياةً أخرى. فالشعر كان ولم يزل يحقن صمتَ الموجودات ليبعثها أحاسيس وحنينًا : ويحفّز في الأشرعة حنين السفرِ فلا يسكن إلا في عرض التفعيلةِ موسيقى وغناءْ. وهل هناك أروع من هذه الصورة : يأتي الشعرُ فيسترُ عري البوحِ إذا ما أشرقَ وجهُ القافيةِ / المعشوقِ مع الأضواء. ومَن أقدرُ من الشعر حين تتغشى العقولَ ظلمةُ فكّ لغز ما تسربلَ فيه الكونُ لغزًا مستترًا عن كنه أكثر الموجوداتِ انفتاحًا ، وأوسع الأخيلةِ انزياحًا : شعرٌ ذرّته سراة الوحشةِ في البيداءِ حداءْ أوضحَ شمسًا أصدقَ ظلا للتعبِ من قدر الأيام الممتدِّ هنالك هما وبكاءْ * وللأب ( الغائب الحاضر ) في ذهن الحاجي ، غائب لأنه لم يره ، وحاضرٌ في ذهنه حضورًا قويًّا يستمد منه الحياة ، ويتنفس من رئة طيوفه الوجودَ. فكيف له أن يحيا أو يرمّم ما تكسّر وتشظى من آماله لولا هذا الطيفُ الجابرُ لكسره : عرفتُك طيفًا من رياضِك جئت لي تُرمّمُ في الآمالِ ما قد تكسّرا فكأن هذا الطيفَ ينفخُ فيه الهدوء والسكينة والأمان من كل منغصاتِ الحياة : وما بتُّ يومًا في أمانٍ من الأسى إذا كان طيفٌ منك عني تأخرا فما زال هذا الطفلُ يجري في دمه ، وما زالت هذه العلاقةُ والطيوف التي امتدّت حبلًا متينًا ، وحصنًا حصينًا لتجسد له أبًا لم يره ، ولتشده للنبع الذي جرى ماءُ حياته رقراقًا منه : تُفتِّحُ في مسرى الطفولاتِ رحلتي تظلل روحي إن دنا الهمُ ممطرا أُحسُّ يديك الآن شدّت بداخلي أبوّتَك البيضاءَ حصنًا مسورا ويبدو أن هذا الطفل الذي وُلد معه ، تشبّث فيه ولم يشأ مُفارقته في كل خُطوات عمره المديدة ، وأن طيوف أحلامه المتعبات التي امتزجت به في حنوّه لأبيه ما زالت تترقبُه ذاتًا وروحًا. يقول في نصّه ( المسافة تلتفتُ ) : أرى الطفلَ ذاك الذي كنتُه ذاتَ عمرٍ يحدق فيَّ مليًّا وعيناه فاضت على خد أحلامه المتعباتِ وفي غفلةٍ من عيون الليالي أشار إلى خربشات الطفولةِ ثم إلى غيمةٍ بالحنان تغنّي وفي حضنها ناحلًا شفّه الانتظارْ ويعودُ مرة أخرى لهذا الطفل وهذه المرة في نصه ( هجر والطفل والقمر ) وهنا تتجلى علاقة الطفل بالمكان : كبرتُ وما زالَ في داخلي انكسارةُ طفلٍ بوجه المطرْ وجدتُك حقلًا بريء النخيلِ زكيَّ الورودِ بهيَّ الزهرْ فرحتُ أخبىء من حزنِ روحيَ بين النخيلِ وتحت الحجرْ * وفي نصه ( النزف اللاهث ) كما في نصوصٍ أخرى يحفل بها هذا الديوان يتجلّى لدى الحاجي قلقُ السؤال ، وهمُّ الغوص في الأعماق لمعرفة كنه الأشياء ، ولعل هذا القلق والهم المعرفي هو ما يجعل نصوصه في لهثٍ دائم لإجابة تساؤلاته ، وسماعِ صوتِ شجنه الداخلي المحفور في أعماق روحه القلقة دائمًا بالسؤال : من تحت جسور الأيامِ مضيتُ وحيدًا ويدا ألمي داخل أكمام الخوفِ فلا أبرح حتى أبلغ مجمع أشعاريَ أو أمضيَ في طرق الأقدار غريبًا وصدى الأنفاسِ يمزق أستار المعنى ويعربدُ في جسد الحِبرِ يبعثر فيَّ الكلمات * وفي نصّه ( قبس من وجع المرسلين ) وهو أقدم نصوص الديوان المؤرخة عام 1433 هـ .. وبصفته معلمًا يبدو أنه أراد أن يجسد همَّ المعلم ، فبه يجسد همه الذاتي ، ويرسم - وهو الفنان التشكيلي الذي رسم بالكلمات أبهى وأروع صوره - فيرسم لوحة لهذا المعلم الذي يراه صنوَ المرسلين في رسالته. وربما عبّر في اللاوعي عن هذا الجهد الذي يبذله هذا المعلم بتكرار الأفعال في النص بشكل كبير بين ماضيها ومضارعها فتسمعه يقول : حملتَ، أضأت ، أنهرت ، ترسمُ تمهد تسلسلُ فترويهم ينبو تهطل تُليّن أشرقت ترحّلتَ فتعصرُ تظل تشدُّ تحزّمت ترتّق طويت وتَقنَع فتحتَ. طويتَ دروبَ العلم منك بهمّةٍ فإنْ تخطُ كان الخطوُ منك توثّبا وتقنعُ بالمرّ النقيعِ ليرتوي فؤادٌ نديٌّ حين ألفاك متعبا كأنكَ والأجيالَ ريحٌ مع اللظى إذا هبَّ بالأفهامِ زادتْ تلهبا * ولعل ثيمةَ الحزن والتعب الفكري، واللهث المعرفي لسبر كنه الحياة، والإيقاع القوي ، الذي يحمل فوق كتفيه خيالًا خصبًا ، مجنحًا بمعانٍ مبتكرة هي من أكثر ما يميّز هذا الديوان الأنيق. طبعًا وفي هذه العجالة التي لم تسعفْني أن أغوص عميقًا لأ ستخرج دررَه الكثيرة ، المكتنزة بجمال الصورة ، وصفاء المعنى ، وصدق الشعور .. ولكن : مالا يدرك كلُّه لا يُترك جلّه. أخيرًا .. واقعًا نحن أمام موهبة متفجرة ، وشلالٍ هادر من الإبداع وخيالٍ متوثب من التجلّي والألق، وحرفٍ لا يشبه غيرَه ، وقدرةٍ فائقة على الابتكار وتطويع اللغة والمفردة .. وبرأيي القاصر أن هذا المبدع لم ينل حقه من الانتشار، والاحتفاء الذي يليق بموهبةٍ بحجم موهبته الكبيرة ، فكم من مواهبَ دونَه صوتُها عالٍ ، وإلحاحها دائم ، أصبح يشار لها بالأكف لا بالبنان ، رغم أن بضاعتها مزجاةٌ ، وشعرَها حشفٌ وسوءُ كيلة . وهنا أكرر شكري لخيمة المتنبي لهذا الاحتفاء المستحق ، ولعلها تكونُ بادرةً لمبادراتٍ كثيرة من مؤسسات ومنتديات أخرى ليُعطى هذا المبدعُ حقه.