في ديوان «فصلٌ من مواعظِ الضلِّيل» ..

رحلة الشك واليقين.

أجزاءُ الحياة لا تنفصل، فكل جزءٍ يكمل الآخر ويستدعيه، حيثُ الذاكرة حلقة الوصل بينها جميعها، إذ هي مفتاحُ الولوج إلى الأعماق القصيَّة للذات، وهي كذلك مفتاحُ الوصول إلى العلاقةِ بينها وبين الأشياء المحيطة بها، ومن ضِمنها التاريخ والثقافة والمرويَّات الشفوية والمكتوبة، وفي عالم الشعرِ ومروياته لا يمكن أن ينحازَ الشاعر الأخير إلا إلى شاعره الأول، الذي فتحَ باب القصيدة وأشعلَ نارها. من هنا يأتي حضورُ “امرئ القيس” داخل الأشعارِ والقصائد، إذ يتَّخذ شكلين هما المضمرُ والبارز، فالمضمرُ يكون عبر التأثُّر والمتابعة، كحالِ الشعراء في تأثرهم ومتابعتهم لمعاصريهم وسابقيهم، أما البارزُ فعبر الاستدعاء والاتكاء، كما فعلَ الشاعر صادق النمر في ديوانِ “فصلٌ من مواعظِ الضلِّيل”. ثمَّة سؤالٌ يتكرر مع كلِّ استدعاء: ما الذي يستطيعُ “امرؤ القيس” تقديمه لشاعرٍ تأخَّر عنه ألف عام؟ كلُّ شاعر يمتلك إجابة خاصَّة به، تُعطي التجربة أبعادها وترسمُ بداياتها ونهاياتها، كاشفة عن تميُّزه وقدرته على الابتكار ومجاوزة الشعراءِ الأسلاف، فالشاعرُ استدعى امرأ القيسِ؛ من أجل أن يُسقط عليه تجربته في الرحيلِ والانتقال من الشكِّ إلى اليقين، لذا ضجَّت القصائدُ بالبحث عن الاستقرارِ والسلام؛ ما جعلها في ترحالٍ وانتقال دائمٍ ما بين الأماكن والشخوص، وهو ما برز في تقسيم الديوانِ نفسه، إذ انقسمَ إلى قسمين: القسمُ الأولُ عنوانه “فصلٌ من مواعظ الضلِّيل”، وفيه تكشَّفت العلاقة بين الشاعرِ وامرئ القيس؛ حيثُ اعتمدت على الاستدعاءِ والتماثل مع تجربته في الشعرِ والحياة (قصيدة انفتاق قصيدة..): “خرجت من المزيَّف للحقيقي وقدَّمت الطريق على الرفيق وسرتُ بحيلة الإيقاع، كَانت طريقتي القصِيدة في الطريق فؤادي: هَودجي، ورؤاي: زادِي ولحني: وجهَتي .. قدمَاي: نوقِي” لينتقلَ بعدها للكشف التام عن نفسِه وإحضارها إلى داخلِ القصيدة، لكن حضُوره جاء مخالفاً لتوقعاته وأمنياته: “فتقت قصيدتي؛ لأدسَّ فيها رحيق هوًى، ففاجأني حريقي” حيث تتحولُ القصيدة إلى حريق، وتصبحُ الكلمات نيراناً تلتهم الشاعر وكلَّ الأشياء المحيطة به؛ ما يستدعي سؤالاً ثقافيًّا عميقاً: كيفَ يستطيع شاعر عاشَ حياة لاهية عابثة أن يقدِّم موعظة لشاعرٍ أتى بعده بألفِ عام؟ يستمرُّ السؤال بالحضور في مفاصلِ الديوان، كما يستمرُّ بالحضور مع كل استدعاء لامرئ القيسِ من قبل كل شاعرٍ من الشعراء، منتقلاً من الفضاءِ الفردي الخاص إلى الفضاءِ الثقافي العام؛ ليغدو كل شاعرٍ مسؤول عن تقديم إجابة خاصَّة به، وهذا ما قام به الشاعرُ في ديوانه، إذ لم يكتفِ باستدعاء شاعره، بل اتجه إلى تبريرِ الاستدعاء والكشفِ عن أسبابه (قصيدة مواعظ الضلِّيل): “الشعر في فمه نارٌ ممزَّقة والخمر في يده شهدٌ، ولا شهدا” ثمَّة حالتانِ وجوديتان تكتنفان الشاعر وتجعلانِ من السهل وقوعه في مصيدة التشابه مع امرئِ القيس، الأولى: حالة الألم الشديدِ والتمزق الداخلي العنيف، حيث الروح لا تهدأُ ولا تستقر، بل تميل إلى الفرارِ من واقعها إلى الهامشِ الفارغ وغير المجدي، وهو ما عبَّر عنه بوضوح في قصيدة (فرار في لجج الفراغ): “مما تفرُّ؟ وليس ثمَّ فرار أنَّى؟ وناشبةٌ بك الأقدار”، أما الثانية: فحالةُ الانغماس في اللذةِ والاستغراق فيها ونسيان الواقعِ الأليم، وهذا ما كشفته قصيدةُ (تمائم) التي تقاطعت مع تجربةِ ابن عربي واستدعتها: “أيَّا ربُّ، إنَّ الروح خيلٌ جموحةٌ وتهرب من إسطبلها آخر الليل”. اضطرابٌ وحيرةٌ وتشتُّتٌ وبحثٌ موغلٌ في الروح عن الحقِيقَة، إذ كلُّ ما يراه وهمٌ وزيفٌ وخداع؛ ما جعله يندفعُ إلى استكشاف طريقته والانفرادِ بتجربته، لتستقلَّ عن تجربة امرئ القيس وتنفصلَ عنها (قصيدة تمارين الفقد): “ماذا أحاولُ أن أقولا لا زلت أحترفُ الذهولا.. عيناي صاريتان، وجهي موجةٌ والريح طُولى وأمدُّ في الكلمات نُسغًا قاحلًا أنوي الهطولا وأموت مراتٍ لأحيا مرةً لتكون أولى” القسمُ الثاني عنوانه “من بقايا المدُن في فمي”، وفيه يرتحلُ الشاعر بشكوكه وأوهامه بحثاً عن الحقيقة، متقاطعاً مع رحلة امرئ القيسِ في بحثه عن استعادةِ ملك أبيه والانتقام من قاتليه، وكما أن رحلة امرئ القيس لم تُسفر عن شيء كذلك رحلةُ الشاعر لم تسفر عن شيء، فالأسئلة التي خرج بها لم يحصَل على إجابتها، لذا عاوده الحنينُ إلى مدينته التي انطلق منها، فمن الانبهارِ بـ”غرافيتي سان فرانسيسكو..” والاندهاشِ بثلوج “نوتنجهام”، تباغته “الدمام” وتحضرُ في روحه وثنايا قصيدته (قصيدة نوتنجهام): “وحين رأيت قطن الثلج، ينزل دون ترتيب.. على وجنات (نوتنكهام)، شيباً غير مخضوب” “ذكرتُ مدينتي (الدمام) ذكرى الدفء والطيب ذكرتُ البحر والأنسام، لا تأتي بمندوب” يتكرَّر الحنين إلى الوطن في كل رحلة يخوضها، فعندما يزورُ “أنقرة حيث مرَّ امرؤ القيس”، يتذكَّر مدينته الموغلة في التاريخ، ويسميها باسمها القديمِ “الجرْها”؛ لتكافئَ المدينة التركية وتتفوَّق عليها: “بعيداً بأرض الترك أجلس في مقهى بدون حنينٍ يعرُبيٍّ إلى (الجَرْها)” وعندما يزورُ “مدريد” يتذكَّر مدنها وتاريخها وخصوصاً “باييلا..” أو “بلنسية”، لكن حينما تأتي رحلة “العودة الأخيرة إلى سان فرانسيسكو” يصل إلى اقتناعٍ بضرورة الشعر، وأن الخلاصَ والإجابة على الأسئلة الوجودية لا تتمُّ إلا من خلاله: “الشعر آخر مخلوق يلوذُ به قلبي، كما لاذ عريانٌ بمستورِ” معَ إدراكه الناضج بضرورة الشعر يأتي إدراكه الآخر؛ بأن الإجاباتِ التي يبحث عنها لا تكونُ إلا في مدينته التي نشأ وترعرع فيها، ومن هنا حضورُ “الدمام” بشكل متكرِّر، إذ يهرعُ ناحيتها كلما استبدَّ به الحنين والشوق (قصيدة صوغة الدمام): “طوَّفت في مدن الدنيا على عجلٍ يا ليتها طوَّفت عمري على مهلِ” ليقطعَ الشك باليقين ويصلَ إلى إجاباته التي طالما بحثَ عنها (قصيدة في ليلة سماوية قدريَّة): “أدربُكَ يا إلهي هكذا بالأُحجيات مَلِي؟ أم انِّي كنت أركبُ رِيبتي فشُغلت بالعَطَلِ؟” معَ نهايةِ الرحلة والعودة إلى الديار تتكشَّف الحقائق وينجلي الزيف، ويرى “رأي العين..” ما كان محجوباً ومتوارياً، حيث الحقيقةُ الوحيدة والأكيدة هي حقيقةُ المدينة التي انطلقَ منها وعاد إليها؛ ووجدَ عندها الراحة والهدوء وإجابةَ الأسئلة التي طوَّحت به وتسبَّبت برحيله: “بدأت العمر أحسبُ أنني قد جئتُ من غيمة وأن الشمس لي أمٌّ وأن الريح لي همَّة وحين رمى عليَّ الوقت من جعبَاته سهمَه تكشَّفت الحقيقة أنها وهمٌ رمَى وهمَه”