
في الخطاب الملكي السنوي الذي ألقاه صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء – أيده الله – في افتتاح أعمال السنة الثانية من الدورة التاسعة لمجلس الشورى ، برزت ملامح مرحلة جديدة من مسيرة التطوير الدفاعي والعسكري في المملكة، حين أشار سموه إلى وصول نسبة توطين الصناعات العسكرية إلى 19% بعد أن كانت لا تتجاوز بـ 2% فقط قبل انطلاق رؤية السعودية 2030. هذا التحول الاستراتيجي يعكس حجم الإنجازات التي حققتها المملكة في زمن قياسي، ويؤكد المكانة المتنامية للمملكة كدولة تعتمد على قدراتها الذاتية في بناء منظومة دفاعية متقدمة. منذ إعلان رؤية السعودية 2030، كان قطاع الدفاع أحد المرتكزات الاستراتيجية التي حظيت بأولوية قصوى، إدراكاً من القيادة الرشيدة -أيدها الله- أن الأمن الوطني لا يتحقق فقط بالقدرة الشرائية للتقنيات الدفاعية والعسكرية، بل أيضاً بامتلاك المعرفة والتصنيع وتطوير القدرات المحلية. ومن هنا جاءت التوجهات الطموحة لتوطين الصناعات الدفاعية عبر خطة واضحة لبناء قطاع صناعي متكامل، يربط بين المؤسسات الدفاعية والعسكرية والجهات المدنية الحكومية والشركات الوطنية والجامعات ومراكز البحث والتطوير. يُعد تأسيس الهيئة العامة للصناعات العسكرية (GAMI) خطوة محورية في هذا المسار، إذ تولت الهيئة مهام التخطيط والتنظيم والتمكين للقطاع الصناعي العسكري، بما يشمل إصدار التراخيص، تنظيم الشراكات الاستراتيجية، وتوطين سلاسل الإمداد. كما عملت على استقطاب الاستثمارات الأجنبية النوعية التي تسهم في نقل التقنية وتوطينها، مما انعكس بشكل مباشر على نمو القطاع وتحقيق أهدافه الوطنية. ولتعزيز التكامل وتوحيد الجهود، تم تأسيس الهيئة العامة للتطوير الدفاعي ككيان وطني متخصص يعنى برسم الاستراتيجيات المستقبلية للأنظمة والتقنيات الدفاعية المتقدمة، بما في ذلك مجالات الذكاء الاصطناعي، الأنظمة السيبرانية، الطائرات المسيّرة، وأنظمة الدفاع الجوي والصاروخي. وتأتي أهمية هذه الهيئة في كونها حلقة وصل بين الجهات الفاعلة في القطاع الدفاعي والعسكري والأمني، بما يضمن توجيه الجهود نحو الابتكار والتطوير المستدام، وتفادي تكرار المشاريع أو تشتت الموارد. أحد أبرز الإنجازات التي أفرزتها رؤية 2030 هو تحقيق تكامل غير مسبوق بين مختلف مؤسسات القطاع الدفاعي والعسكري والأمني، بدءاً من وزارات الدفاع والداخلية والحرس الوطني، وصولاً إلى الشركات الوطنية الكبرى مثل الشركة السعودية للصناعات العسكرية SAMI))، والشركات الناشئة التي تنشط في مجالات متخصصة. هذا التكامل أسهم في رفع كفاءة الإنفاق العسكري، وتعزيز القدرات البحثية والتطويرية، فضلاً عن خلق بيئة عمل تشجع على الابتكار وتطوير الكفاءات السعودية. لم يقتصر التقدم على الجانب الصناعي في هذا القطاع الحيوي، بل شمل بناء رأس المال البشري كأحد أهم ممكنات التنمية المستدامة. فقد أُطلقت برامج نوعية للابتعاث والتدريب المتخصص في مجالات الهندسة الدفاعية، إلى جانب إبرام شراكات مع جامعات ومراكز بحثية عالمية، بما يضمن تكوين قاعدة وطنية من الخبراء القادرين على قيادة الصناعة العسكرية السعودية في المستقبل. إن رفع نسبة التوطين إلى 19% لا يمثل مجرد إنجاز رقمي، بل هو تغيير جذري في منظومة الأمن الوطني والاقتصاد الوطني. فمن جهة، يسهم هذا التطور في تحقيق الاستقلالية الذاتية وتقليل الاعتماد على الخارج في تأمين الاحتياجات الاستراتيجية. ومن جهة أخرى، فإنه يفتح آفاقاً اقتصادية واسعة عبر خلق فرص عمل نوعية للشباب السعودي، وتنمية الصناعات المرتبطة مثل الصناعات التقنية والهندسية. لقد أثبتت القيادة الرشيدة – أيدها الله – أن تطوير القدرات الدفاعية وتوطين الصناعات العسكرية ليس خياراً تكميلياً، بل هو ركيزة أساسية في بناء الدولة الحديثة، ووسيلة لتحقيق أمنها واستقرارها، وتعزيز مكانتها كقوة إقليمية وعالمية مؤثرة. فالدعم المباشر من خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد -حفظهما الله- كان العامل الأبرز في تسريع وتيرة هذا التحول، بما يعكس رؤية استراتيجية تدرك أن قوة أي دولة تقاس بقدرتها على حماية نفسها من خلال صناعاتها الدفاعية المحلية. مع استمرار الجهود وتكامل الأدوار بين الهيئة العامة للصناعات العسكرية والهيئة العامة للتطوير الدفاعي وبقية الجهات ذات العلاقة، تبدو المملكة اليوم أكثر استعداداً لمواجهة تحديات المستقبل، وأكثر قدرة على بناء قطاع دفاعي وأمني يعتمد على ذاته ويواكب أحدث التطورات العالمية. ختاماً، يمكن القول إن ما أعلنه سمو ولي العهد في خطابه الملكي لم يكن مجرد استعراض للأرقام، بل هو تأكيد على التحول الاستراتيجي الشامل الذي تعيشه المملكة في قطاع الدفاع والأمن، وتحقيق رؤية واضحة عنوانها: الاعتماد على الذات، وتوطين التقنية، وضمان أمن الوطن واستدامة تنميته. إنه تحول تاريخي سيُذكر بوصفه أحد أعمدة رؤية 2030، ودليلاً على أن الإرادة السياسية حين تقترن بالتخطيط العلمي والاقتصادي، تصنع المعجزات. حفظ الله خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الآمين ، وأن يجزيهم خير الجزاء على ما يبذلونه للوطن والمواطن، وأن يديم علينا الأمن والأمان والازدهار والاستقرار في ظل قيادتنا الرشيدة -أيدها الله-. * إعلامي سعودي