
في اليوم الوطني، لا تتجسد المملكة في المباني والمظاهر وحدها، بل في الفنون الشعبية التي تروي قصصًا عمرها قرون، وفي الإيقاعات التي تحمل ذاكرة الشعوب وأصالة الأرض. من العرضة إلى الدحة، ومن الخطوة الجنوبية إلى المجرور الطائفي والخبيتي، تتناغم الأجساد مع الكلمات والأنغام لتروي حكاية وطن يُحتفى به عبر فنون شعبية تمثل جوهر هويته. حين نحتفل باليوم الوطني، فإننا لا نحتفي بالتاريخ وحده، بل نعيد قراءة أنفسنا في مرآة الهوية. وفي خضم هذه الاحتفالات تتنوع العروض المقدمة بين استحضار سيرة الأسلاف بما تحمله من قيم وبطولات، وبين الفنون الاستعراضية والرقصات الشعبية التي تحتفظ بملامح تراثنا العريق. هذا التنوع لا يُفهم على أنه مجرد اختلاف في الذائقة، بل هو انعكاس لثراء الهوية السعودية في صورها المتعددة: ذاكرة وتاريخ من جهة، وإبداع جسدي وموسيقي من جهة أخرى. فالرقص الشعبي لم يكن يومًا مجرد ترفيه عابر، بل لغة مارسها الإنسان عبر العصور للتعبير عن طقوسه، وحاجاته النفسية، وحتى قناعاته الدينية. ومع الزمن، تحولت هذه اللغة إلى فلكلور حي يروي قصص الشعوب، ويؤرخ لحضاراتها، ويكشف عن ثباتها على الأرض أو رحيلها عنها. وفي الحركات المتناغمة مع الأنغام والكلمات المؤثرة، تتجسد ذاكرة جماعية تصوغ الوجه الثقافي للأمم، وتبني سرديتها الشعبية التي لا تقل قيمة عن السرديات المكتوبة في الكتب. وفي السياق السعودي، تزدهر الرقصات الشعبية كمرآة للهويات المحلية المتنوعة؛ فالعرضة تمثل رمز القوة والتلاحم، والدحة في شمال المملكة تعبّر عن روح الفروسية والحماسة، وترمز للنصر والمعارك إلى أن تحولت موروثًا ثقافيًا في المناسبات السعيدة، والخطوة الجنوبية تحمل إيقاعات الجبال وصلابة أهلها، بينما يروي المجرور الطائفي القوة والشجاعة والتناغم مع البيئة الجبلية، ويعكس الخبيتي أجواءً اجتماعية نابضة بالبهجة. كل رقصة من هذه الرقصات ليست مجرد إيقاع، بل وثيقة حية تحفظ ملامح الجغرافيا، وتؤكد أن التنوع الفني امتداد طبيعي لتنوع البيئة والثقافة. وجميل أن نشهد هذا الاحتفاء بالموروث، وأن نرى الفخر والاعتزاز يتجسدان فيما يُقدَّم من محتوى ثقافي يبرز هويتنا ويعزز تمسكنا بها، مهما تلاقحت مع ثقافات أخرى. فأساس الهوية واضح، راسخ، ومصدر اعتزاز، نعبر عنه ونحرص على نشره وتعريف الأجيال القادمة به. ومن يتشبع بثقافته وهويته لا يحيد عن وطنيته، بل يزداد تعلقًا بالأرض والشعب الذين صاغوا هذا الموروث عبر العصور. وعندما يتناغم الجسد مع الكلمة واللحن في عروض اليوم الوطني، يولد عمل فني يليق بأن يعبّر عن تراثنا. هنا يصبح الاحتفال أكثر من مناسبة زمنية؛ إنه إعادة إحياء للهوية، وتذكير بأن التاريخ لا يعيش في الكتب وحدها، بل ينبض في الحركة والإيقاع والفن الشعبي، الذي يشكل جزءًا أصيلًا من وعينا الجمعي. ومن هذا المنطلق، تبرز الحاجة إلى عناية أكبر بتأريخ الفنون الشعبية السعودية، وإصدار كتب ومطبوعات متخصصة توثق هذا الموروث الغني، بعيدًا عن الاقتصار على الأبحاث الأكاديمية القليلة في هذا المجال. كما يجب الاستفادة من خبرات الممارسين المتمرسين لهذه الفنون لضمان صيانتها ونقلها للأجيال القادمة، والحفاظ عليها من الاندثار، ليظل التراث الشعبي السعودي حيًا، نابضًا بالذاكرة والهوية والفخر الوطني. *ماجستير في الأدب المسرحي.