في كتاب الرحالة دوروتيا فون لينكه.

رحلة إلى المدينة المنورة عبر قلب البادية.

كتاب طريف في أدب الرحلات سجلت فيه الرحالة الألمانية دوروتيا فون لينكه التى تعرف بأكثر من اسم حسب النسبة إلى زوجها الألماني الأول، ثم زوجها الإيطالي الذي تزوجته بعد وفاة زوجها الأول، وسنشير إليها هنا بلقب الكونتيسة، ترجم الكتاب بواسطة محمد سعيد مزهر و د. أحمد إيبش، ضمن مشروع “ رواد الشرق العربي” الصادر عن “ هيئة أبوظبي للثقافة والتراث”. يشير المحقق في مقدمته إلى أنه حين نتحدث عن تراثنا الجغرافي، فلا بد أن نذكر أن ثمة تيارا موازيا له، لا يقل عنه أهمية وهو رحلات الأوروبيين إلى المشرق العربي. وهذه الرحلات لم تتوقف منذ أقدم العصور قبل ظهور الإسلام بدافع الفضول، وتحولت في العصور الوسطى إلى رحلات بدافع الطمع الذي رافق الحروب الصليبية، ومنذ بدايات القرن السادس عشر بدأت مرحلة جديدة تضاعف فيها عدد الرحالة الأوروبيين الذين قصدوا المشرق إما للتجارة وإما للمغامرة وإما للاستطلاع وإما لمجرد الخروج بمؤلفات إبداعية فريدة.  رحلة الكونتيسة هذه رحلة غريبة إلى درجة أن البعض قد شكك في حدوثها، كيف تمكنت إمرأة من الترحال بمفردها في أوائل القرن العشرين، من دمشق إلى عدرا وتدمر في بادية الشام، ثم الحماد ووادي السرحان وعبرت الدهناء إلى القصيم، الزلفي وبريدة والرس والحناكية ثم المدينة المنورة؟ كانت تخطط لتحقيق حلمها بأن تكون أول من يجتاز الربع الخالي، ولكن ظروف الحرب العالمية الأولى جعلتها موضع شبهة من السلطات العثمانية فتم اقتيادها مخفورةً من الزلفي إلى المدينة المنورة ثم إعادتها إلى دمشق، وهناك عوملت كجاسوسة روسية وتم تهريبها إلى بيروت، لم يستطع القنصل الروسي مساعدتها، لكن تم تهريبها على متن سفينة أمريكية كانت راسية في ميناء بيروت. ظن بعض الباحثين أن ما كتبته الكونتيسة ضرب من الخيال الأدبي الذي كان موضة ذلك العصر، خاصة مع وجود أخطاء في التواريخ وفي التسميات فهي تتحدث عن قبيلة الرولة فيما أن الوقائع والأسماء تشير إلى قبيلة أولاد علي، التي أصبحت صديقة لشيخها سلطان الطيار وأقنعته بالارتحال معها عبر الربع الخالي، ولولا اصطدامهم بالسلطات المحلية في الزلفي، حيث العثمانيين، لربما تحقق الهدف. وقد ذكرت في رحلتها أسماء بعض الشخصيات المعروفة مما أضفى على السرد مصداقية كبيرة، كذلك حوى النص على صور فوتوغرافية ورسومات يدوية بتوقيعها مما لا يمكن إنكار مصداقيته. والسرد شديد الإمتاع والتشويق، وهي تعلن كثيرا عن حبها للبدو وتعلقها بطرق حياتهم، لبست مثلهم وأكلت بطريقتهم، ووصفت صحاريهم برومانسية شديدة، رغم صعوبتها وقسوتها أحيانا، فيما كانت تضيق بأهل المدن الذين أفسدهم تقليدهم الأوروبيين في دمشق، أو أفسدهم تنكرهم لحياة البادية كما في الزلفي. تضيق بهم إلى درجه أن ترى أنهم ليسوا في وسامة البدو أو رشاقتهم ولا في حسن أخلاقهم، ولعل ذلك كان انعكاسا لتأثر أهل المدن بأجواء بداية الحرب العالمية الأولى والتي لم يكن الوقت مناسباً فيها للرحلة التي بدأت عام ١٩١٤ للميلاد.  في دمشق سكنت بيتا عربيا، لم يكن شكله من الخارج جميلا، ولكن ساحته كانت جميلة بنافذة المياه وحولها زهور الياسمين، وأشجار البرتقال والليمون، وبلاط الموزاييك، وتطل سطوحها على بيوت دمشق وأسواقها وجبالها، لم يكن يزعجها غير صوت قباب صاحبة البيت التي تتحرك بكثرة في المنزل. لم تكن النظافة كافية لكي تتناول طعام صاحبة المنزل لكن الفواكه كانت كافية وطيبة المذاق، الطريق إلى البيت يمر بأسواق دمشق، القباقبية، البوابجية (صناعة الأحذية)، سوق الحرائر “ تفضلي يا خانم”. وكانت تقضي بعض الوقت في باحة جميلة لأحد الفنادق تدخن النارجيلة، وتذهب في رحلات إلى دمر حيث تجلس على ضفة نبع الفيجة حيث المقاهى الجميلة التي يرتادها أغنياء دمشق بين الظهر والعصر، حاولت الذهاب إلى جبل الشيخ، وكادت تتعرض لمخاطر السرقة، وتبين لها أن هناك من كان يراقبها، ويحصي عليها أنفاسها، وتبين لها أن صاحبة المنزل كانت توصل أخبارها، ولولا مساعدة صديقها ندرة مشاقة لوقعت يوما في كمين. رتب لها ندرة مشاقة حضور حفلات منزلية مع عائلات سورية ويبدو أنها لم تتفاعل كثيرا معها. ولم تعجب بالموسيقى والغناء رغم التفاعل الكبير الذي ستبديه نحو الرقص والأهازيج البدوية. شاهدت كيف فتك تجمع من الناس بأحد اليونانيين بتهمةٍ مزورة عن تحرشه بإحدى النساء، ما عكس كرها شديدا للفرنجة من أهل دمشق، بينما كان أبناء قبيلة أولاد علي ينادونها بالأميرة.  تعرفت على الشيخ محمود البسام الذي كان مرافقا للمستكشفه غيرترود بل، واستغربت أن ابن الصحراء بنى لنفسه بيتا في الحي الأوروبي في الصالحية ففي رأيها لا راحة مثل ما تجده في الصحراء. أعجبها السجاد البديع المستخدم في المنزل، وأزعجها التقليد الرخيص لكل الأثاث الأوروبي. ساعدها البسام في شراء ثلاث خيام، ومستلزمات التخييم، وأعداد هدايا للبدو ونسائهم ، وثمانية جمال، وعدد اثنين من الخيول. الدكتور خليل وهو طبيب أسنان درس في الجامعة الأمريكية عرض عليها الرفقة فسرها ذلك، كما اصطحب البسام دليلا وطباخا. في عدرا قابلت الشيخ عمار شيخ قبيلة العقيدات الذي كان يتباهى بقوة عبيده وذكر أن أحدهم بقوة ثلاثين رجلا، وروي عن شجاعته حكايات عديدة، انتقلت لتزور النساء اللواتي كن في خيمة منفصلة ، منهن من كانت تصنع الصوف للحصر وجمع شعر الجمال لصنع بيوت الشعر، الجزء السفلي من الوجه مليئ بالوشوم، يضعن حلقات في أنوفهم، لم يمانعن في التقاط الصور لهن، بعدها انتقلت إلى مضارب الشرارات التى كان أهلها ظاهري الفقر لكنهم سعداء، استمتعت بغناء الرجال الجالسين متربعين حول النار في ظل القمر،  لم تكن مياه الشرب أو الاستحمام نظيفة تماما، كانوا يرشحونها. استمتعت بصحبة الشيوخ في جولاتها على الخيل، كبحوا جماحها حين كادت توغل في الصحراء. شيخ الشرارات أظهر فقره ففهمت مراده وأهدته عباءة جديدة. بعدها اجتازوا أرضا صخرية لا نبات فيها حتى وصلوا إلى مضارب إحدى أفخاذ شمر، وصفت ببراعة رقص جموع الرجال الذي تخلوا عن رصانتهم ليجيدوا الرقص. بعدها ساروا حتى بلغوا مخيم قبيلة بنى لام ، شيخها محمد عبدالله الطالب العروق، الشيخ ذو طلة عربية تبدو عليها الكبرياء، داره تشبه حصنا مسورا بأربعة جدران متينة، حالما دخلتها خيل إليها أنها في جنة من الجمال والدعة. كانت واحة مليئة بأروع الفواكه والأزهار، والنوافير والبرك الصغيرة. رحب بها نساؤه وعبيده الذين يعاملهم كأولاده، تقوم على الخدمة فتيات يتحركن برشاقة وخلاخيلهن الفضية تصدر موسيقى ناعمة. ثم انتقلوا إلى مضارب قبيلة أولاد علي، شيخهم سلطان بن سطام الطيار. أدهشتها طريقة تحضير القهوة العربية وموسيقى المهباج الخشبي، ثم كان العشاء خروفا مشويا مع البرغل المسلوق، ثم وصلة رقص يطبل الرجال وترقص النساء بينما تحملن السيوف والمشاعل.  فتنتها حياتهم وكرمهم واحترامهم ومهرجانات ألعابهم وهم على ظهور الخيل، واستمتعت بمرافقة الشيخ في رحلات صيد الغزلان والأرانب. ثم شاهدت شجاعة الشيخ حين ارتحل الجميع صوب نجد إذ تعاركوا مع أحد أفخاذ شمر، فكان له صولات وجولات. وعلى الأغلب فقد أقنعت الشيخ بالرحلة إلى الربع الخالي.  كانت معهم تشعر بأمان لم تشعر به عند مرافقة عرب مصر والمغرب، تمدح حفاظهم على نقاوتهم وبدائية حياتهم، لم يكونوا متعصبين دينيا ولا متدينين جدا. تقول: إن معاييرهم في الشرف وحدها هي التي مكنتها من العيش وحيدة بين الرجال شهرين تلقى بينهم احتراما لا يوصف.     كان الشيخ يسأل كثيرا عن الحياة في أوروبا، ولكنها اكتشفت أن هذا الفضول كان ممزوجا بالشفقة على الأوروبيين لا بالإعجاب بهم.  خلال وقت وجيز أنزلت النسوة أربعة آلاف خيمة، وحملها الرجال على الجمال، وبدأ ارتحال المعسكر في الصحراء، مشت النساء وئيدا يغنين أغانيهن البدوية الوحشية المليئة بالشجن، تقول إنها شعرت أخيرا بأنها لقيت قدرها الحقيقي، وها هى تعيش حياتها. قطعوا أراض صخرية وودياناً صغيرة، افتقدوا الأرانب البرية التي استبدلت بها جرذان الرمال (الجرابيع). وصلوا إلى منطقة آبار تحول لون مائها إلى الأحمر، شك الركب أن اللصوص قد اعتدوا على أفراد قافلة صغيرة فقتلوهم وألقوا بجثثهم في الآبار. كادوا يضلون الطريق وهم يعبرون الدهناء لكنهم استطاعوا أن يعدلوا المسار، اصطادوا البقر الوحشي الذي أدخل بعض التغيير على نمط غذائهم. اقتربوا من مضارب الشرارات، وعلموا بأنباء الحرب التي أزعجتهم. وصلوا إلى أم الفهود حيث أقيم حفل زفاف استمر يومين، تصف ألعاب الفروسية والخيل ومسير العروس إلى بيت زوجها وصفا خلابا. واضح أن حياة البادية لم تكن تفتقر إلى البهجة والسرور.  وصلت القافلة إلى الزلفي، وبدأت السيارات تتوالى من قائممقام الزلفي للشيخ سلطان، ولم تصدر أي بادرة لاستئناف المسير، و بدأت تلتقط كلمات مثل، روم، كفار… إلخ، من الواضح أن وجودها كان سبب الإشكال، الشيخ سلطان كان مستعدا للقتال، لكن شيوخ العشيرة أخذوا زمام الموقف، ونُصحت بالإنسحاب تسللا، لكن قافلتها أحيط بها بسبب عمالة خادمها مع قائممقام الزلفي، واقتيدت مخفورة عبر مسير كئيب طويل، يتبدل فيه الحرس والمرافقون، أحيانا يبدون لطفا وأحيانا يبدون قسوة، و قد سُرقت أكثر من مرة، أحدهم أحضر ثعبانا ساما ليشاغلها، انتقلت من الزلفي إلى بريدة فالرس فالحناكية، أخذت الصحراء تكتسب لونا كئيبا، بعض أنحاء وادي الرمة كانت جميلة لكن طعم الحياة تغير. تصف القرى التي مرت عليها وسكانها، وتعامل القائممقام في كل مدينة معها بغير ود، العثمانيون هؤلاء كانوا يتشككون في أى غربي في ظروف الحرب، أخذت إلى المدينة المنورة، زارت مسجد الرسول وانبهرت به، وصفت ورسمت ببراعة ما رأته، قوافل المسلمين الأغنياء من كل مكان وقوافل المسلمين الفقراء بأسمالهم وتسولهم تملأ الشوارع، أهل المدينة في الأغلب كانوا من الأغنياء بسبب مواسم الحج، وانتهت الرحلة بأن عادت بقطار الخط الحديدي الحجازي من المدينة إلى دمشق.  كتاب شائق حافل بالجرأة والمغامرة والخيال الخصب في آن.