حوش جدّاني

كنتُ وأنا صغير أشعر أن الحياة كلّها تسكن داخل حوش جدّاني. نركض بين زواياه، وتركض معنا دجاجات جدّتي -رحمها الله- كأنها تشاركنا لهونا، تتعب ونتعبها معنا. في الركن طشت ماءٍ كبير يُرَوِّشون فيه الصغار، وحول زير الماء تتناثر حبات الحبحب، خاصة في موسم الصيف. وإلى يمين مداخل الدار تنتصب الرحى الحجرية لطحن الحبوب؛ أداة لا غنى عنها في ذلك الزمن. تلك مشاهد من حياةٍ أكاد ألتقطها الآن كطيفٍ يمرّ في الذاكرة. خارج الحوش، في الطريق إلى المدرسة، ملامح أخرى تنتظرنا: بساتين تتشابك نخيلها، وحقول مزارع نعبرها بخِفّة الصغار، يعلَق في ثيابنا نبات يُسمّى البليسكان، فنشعر بوخزه حين نحكّ جلودنا. تلك التفاصيل الصغيرة صنعت دهشتنا الأولى؛ دهشة الذين يكتشفون العالم بأقدامٍ حافية وأروحٍ نقية. ثم خرجنا من حوش جدّاني مع والدي إلى بيتٍ مستقلّ، صغيرٍ بقاعةٍ ضيّقةٍ وثقوبٍ يدخل منها ضوء الشمس، ومرزابٍ يطربك صوته حين يسقط المطر. لم نشعر بضيق المكان، ولم نكن نطمع في رحابةٍ أكبر؛ فبيوت الناس حولنا تكاد تتشابه، والطفولة بطبعها تُلقي الحمل على ظهور الكبار. أمي، ووالدي، وأعمامي كانوا بالنسبة لنا العالم كله. كانت الأيام بسيطةً، مفعمة بالحياة: صحن المرقوق، لبن السعن، شوية تمر، ورضا يفيض مع أول لقمة. نعيشُ السعادة كما هي؛ لا نبحثُ عنها فيما نملك، بل فيما نشعرُ به. ولا ننسى أنَّ للطفولةِ رونقَها الخاصّ، مهما قلّت الإمكانات. مرّت الأعوام، وخرجنا من تلك القاعة الضيّقة إلى بيوتٍ أوسع وأحياءٍ حديثةٍ أكثر عمرانًا، وذلك من نعم الله التي توجب الشكر. نعم، تطوّرت الحياة من حولنا، وتبدّلت الوجوه والمباني، لكنّ حوش جدّاني ظلّ في داخلي كما هو: ظلّ الماء البارد في الزير، ورائحة الخيش المبتلّ، وصوت الرحى ووالدتي تطحن الحبّ عند مدخل الدار. وطبيعيٌّ أن يَحِنَّ الإنسانُ إلى زمنِه الأوّل، وإلى بيوتِ جَدّانه، وقد قال المتنبي: أَحِنُّ إِلى الكَأسِ الَّتي شَرِبَت بِها وَأَهوى لِمَثواها التُرابَ وَما ضَمّا تعلّمتُ من ذلك الحوشِ البسيط أن السعادةَ ليست في سعةِ البيوت، ولا في الترفِ الزائد، بل في صفاءِ القلب، ولمّةِ الناسِ مع بعضها، وامتنانِ النفسِ في كلِّ الأحوال. وإلا فما فائدةُ أن تتّسعَ الدورُ وتضيقَ الصدورُ؟