النوم.. القصيدة التي يسطرها الليل بقلم الأحلام..

يسدل ستار الليل بكل وقار كل ليلة على بني البشر حيثما و كيفما كانوا، معلناً انقضاء يوم آخر، يوم يسحب آخر أنفاسه راحلاً بخيره و شره، بما فيه من ضجيج الحياة و هدوء الاعتيادية. مشهد رغم تكراريته التي ألفتها النفوس، إلا أنه يوثق لحظة تجمع ما بين الموت و الحياة، موت و انحسار للضوء و الصخب و الهتاف، و حياة و امتداد للظلمة و الطمأنينة و السكون. حزين كان هذا الليل أم سعيد، سيحل جالباً معه قدراً لا يستهان به من الصمت و الصفاء. النوم من أعظم القضايا التي تم التعمق بدراستها علمياً و طبياً و التفنن باستشعارها أدبياً و شعرياً. في حين قد يحاول البعض منا الهروب من الموتة الكبرى ما استطاع، يأتي النوم ليغرر بنا بكونه الموتة الصغرى التي نصبو نحوها بكامل إرادتنا كل مساء، فيبدو و كأنه تمهيد لطيف لأمر سيذوقه كل إنسان يوماً ما، فرحلة العمر قصيرة و إن طالت بنا، و مرور الوقت سريع و إن تثاقل علينا. النوم كأداة لإعادة التوازن للجسد و العقل النوم هو حالة طبيعية و دورية و فسيولوجية تتميز بالاسترخاء العضلي و الراحة الجسدية و انخفاض الاستجابة للمؤثرات الخارجية، و رغم مفاهيم الراحة و الخمول المرتبطين به، إلا أنه عملية تجديد و معالجة حيوية للجسد و الدماغ، هو أعظم عملية ترميم قد تحدث لكن بكل هدوء. في خمسينيات القرن الماضي، قام يوجين أسيرينسكي، و هو طالب دكتوراه في جامعة شيكاجو، بتغيير مفاهيم النوم و الأحلام. حيث قام باكتشاف أمر غريب يحدث للأشخاص النائمين أثناء أداء تجاربه، و لاحظ أنه خلال الرسم و التخطيط المغناطيسي، كانت أعين هؤلاء الأشخاص النائمين تتحرك بسرعة من تحت الجفون المغلقة، مما يشير على أن الدماغ يظل نشطاً و في حالة ديناميكية خلال النوم بدلاً من أن يكون خاملاً، و هي أحد مراحل النوم التي يطلق عليها حركة العين السريعة، و هي المرحلة التي يحلم فيها الإنسان. تم تقسيم مراحل النوم بطرق عدة، منها تلك التي تبدأ من النعاس، مروراً بمرحلة النوم الخفيف، و النوم العميق الجزئي، و النوم العميق الكامل، و من ثم حركة العين السريعة. كما يمكن تقسيم النوم علمياً إلى قسمين أساسيين: ١- مرحلة النوم غير الريمي أو النوم الهادئ و الذي يشكل نحو ٧٥-٨٠٪ من النوم الكلي، تكون فيه ضربات القلب بطيئة و نشاط الدماغ منخفض كما تندر فيها الأحلام. ٢- مرحلة النوم الريمي و هو النوم النشط و الذي يشكل نحو ٢٠-٢٥٪ من النوم الكلي، تكثر فيه الأحلام و تزداد ضربات القلب و التنفس و يحدث تنظيم للذاكرة و معالجة للعواطف. الدراسات العلمية المختصة بالنوم لم تقتصر على دراسة مراحله و مزايا كل منها، بل تم ظهور العديد من النظريات التي أثبتت قيمته و الغاية منه على أصعدة عديدة كالبيولوجية و النفسية. أحد هذه النظريات هي نظرية المرونة الدماغية، و التي تشير إلى أهمية النوم كونه الوقت الذي يستغله الدماغ في إعادة تنظيم نفسه و تغيير تركيباته و وصلاته العصبية. على صعيد آخر، تشير نظرية الاستعادة إلى قيام الجسد بإصلاح الأنسجة و تجديد الخلايا خلال النوم. أما على صعيد نفسي، فمن أشهر نظريات النوم هي نظرية فرويد.jعود هذه النظرية إلى العالم و الطبيب النمساوي سيغموند فرويد، و الذي أسس التحليل النفسي في القرن التاسع عشر. تشير نظرية فرويد على أن الأحلام التي نراها خلال النوم هي الطريق الملكي إلى اللاوعي و الانعكاس لرغبات الشخص الحالم، مما يجعل من الأحلام سبيلاً للعقل اللاواعي للتعبير عن كل مطالبه المكبوتة و التي لا يستطيع الإنسان البوح بها خلال وعيه اليومي. النوم عملية حيوية تضم في كواليسها العديد من الوظائف التي تخدم الجسد البشري، من استعادة للطاقة و تنظيم للمشاعر و الأفكار، إلى دعم للجهاز المناعي و تنظيم للهرمونات. جميع هذه الوظائف تتم في أجسادنا في وقت راحتنا و نومنا دون أن نشعر، في حكمة واضحة و صريحة لعظمة و إبداع الخالق سبحانه و تعالى في خلقه، فتبارك الله أحسن الخالقين. النوم كقصيدة يسطرها الليل بقلم الأحلام المشاعر المرتبطة بالنوم و سكون الليل الذي يحل معه أمور تدفع بنا نحو تفهم اتصاله الوثيق برموز مختلفة و متفاوتة في عالم القصائد و الأشعار. ليس من المستغرب أن حالة شاعرية كالنوم لن تغيب عن أبيات و قصائد الشعراء منذ القدم، و هم الذين استطاعوا بحسهم الوجداني إعطاء النوم حقه كرمز لأحاسيس متناقضة، تذكرنا بطبيعة اختلاف مشاعرنا بين ليلة و أخرى. فالنوم رمز للأحلام و الخيالات، كما قال قيس بن ذريح: وَإِنّي لأهوى النوم في غير حينه لعل لقاء في المنام يَكونُ تُحَدِّثُني الأَحلامُ إِنّي أَراكُمُ فَيا لَيتَ أَحلامَ المَنامِ يَقين و النوم رمز للراحة و الطمأنينة، كما قال المتنبي: أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ كما أن غياب النوم يعد رمزاً للحزن و الفقد و المعاناة، كما قال العباس بن الأحنف: نامَ مَن أَهدى لِيَ الأَرَقا مُستَريحاً سامَني قَلَقا لَو يَبيتُ الناسُ كُلُّهُمُ بِسُهادي بَيَّضَ الحَدَقا و بلا شك فإن النوم و بكونه الموتة الصغرى فإنه يذكرنا بتلك الكبرى، كما قال أبو العلاء المعري: المَوتُ نَومٌ طَويلٌ لا هُبوبَ لَهُ وَالنَومُ مَوتٌ قَصيرٌ بَعثُهُ أَمَمُ النوم صديق الحالمين، و كتف الحزينين، و رفيق المبتهجين. ينقضي النهار، و تغفى الأجساد، و تغمض الجفون، و يصمت الكون من حولنا عند النوم، لكن عالماً آخر من العمليات و المنظومات الحيوية و العقلية تحدث بكل دقة داخل هذه الأجساد المنهكة بكل وقار، ليصبح هذا الجسد على غد أفضل و نهار أصفى. فهذا الجسد المرتاح على موعد مع سلسلة من أسمى إبداعات الله في خلقه، فعتمة الليل ستضيء في دواخلنا ما لا نرى، و هدوء الفضاء سيضج في دواخلنا ما لا نسمع، و استرخاء الجسد يقابله في اللحظة ذاتها دماغ يسري في رحلة سرية إلى بوابات الذكريات و المشاعر، إلى بوابات تقود الإنسان إلى حقيقته كاملة، جميلة كانت أو قبيحة. و فقط أولئك الذين متعهم الله بالحقيقة الجميلة و السريرة الطيبة، سيصفون النوم بأنه أبهى قصيدة يسطرها ليلهم بقلم أحلامهم.