التغريبة الفلسطينية!

في التغريبة الفلسطينية فعل وليد سيف وحاتم علي ما لم تفعله ألوف القصائد والخطب والروايات في النظر إلى هذه الملحمة من داخلها وخارجها، من الأسرة الصغيرة، إلى المجتمع المحلي، إلى المجتمع الكبير الممتد في الصراع. ثمة مشاهد كثيرة لفتتني، وأنا أعيد مشاهدة هذه التغريبة للمرة الثانية، وكانت التقنية السردية غاية في الإتقان، فقد كان الراوي يعلّق محايثا للمشهد في فترات تعلو فيها لغة البيان على المكان، وهكذا يتراوح السرد بين البيان والإنسان، والبيان والمكان في تناغم بديع أتاح للسارد الخارجي أن يتقمّص الراوي الداخلي في نقل المشاهد والمواقف والرؤية الفلسفية العميقة جنبا إلى جنب مع الحوار بين الشخوص في الدور الدرامي. كانت أسرة صالح بن يونس، أو أسرة أبو صالح، الأسرة المناضلة التي تمثّل القضية وتتمثّلها أكثر، من بين الأسر الأخرى التي قد تشغلها الضِّياع، وربما صرفها الثراء والعمل السياسي عن جوهر القضية بخلاف أسرة أبو صالح التي منذ صراع القرية حتى التهجير وهي في بؤرة الصراع لا تحيد عنه، الصراع على المستوى الاجتماعي بين الأسر في التنافس والمدافعة، والصراع مع عميد القرية وبعض وجهائها مثل (أبو عايد) الرجل المتنفّذ، المتسلّط، والتاجر الجشع، و(أيو عزمي) الباحث عن السلطة والوجاهة، وأخيرا الدخول في جوهر الصراع على الأرض مع اليهود وقبل ذلك مع الإنجليز الذي كانوا يدهم في المنطقة وشركاءهم في الاحتلال.  وتنقل لنا التغريبة كثيرا من مواقف الحياة الهامشية التي صنعت المتن ونسجته حتى صار في عين العالم، ومن ضمنها ما فعله المناضل أبو صالح في المدافعة بما يستطيع وبما هو متاح، وكان الجزء الأهم من نضاله هو الحرص على تعليم إخوته الصغار، والذهاب بمن اختير منهم للدراسة إلى المدينة ودعمه وحثه على العلم وهو من أنتج أخيرُا هذه السردية في صيغتها الكتابية ونقلها من الفعل الاجتماعي إلى الفعل الثقافي. كثيرون من يقومون بدور أبو صالح، ليس في القضية الفلسطينية وحسب، بل وفي الحياة حين يدفعون بعجلة التاريخ من الخلف ويصنعون وهم في الظل رجال العلم والفكر، وهم أميّون لا يلتفت إليهم التاريخ الذي يصنعه الكّتّاب أنفسهم ولا يذكرون إلا عَرَضًا في السير الذاتية أو سير القصص والملاحم، وربما كانوا هم الأثر الأعمق في صناعة الأبطال والدفاع عن القيم الإنسانية العليا وترسيخها في ذاكرة التاريخ.