قراءة في أدوات مجموعة « ريحانتي » للكاتبة كفى عسيري ..
أنفاس قصصية جديدة خارج الخطاب الفني المعهود .

في قراءة القصة نتوقّع فاعليّة الدهشة أقرب من تحقق فاعليّة الأدوات أحيانا لأنها شكل سرديّ يحاول جاهدا – مثل كثير من أشكال الأدب المعاصرة في مجالها – الوصول إلى فنيّة تتحقّق باستحضار التحدّيات التي تواجهها في بناء إنجاز أدبي معاصر. الكاتبة كفى عسيري، توزّع أدواتها الفنيّة في تجربتها القصصيّة لتثبت تنوّع مسارات أدواتها الفنيّة في أعمالها، والتي تظهر بالفعل وعي الكاتبة بضرورة البحث عن أنفاس قصصيّة أخرى خارج الخطاب الفني المعهود، وأعمالها تشيء بحسّ كاتب قادم من ولادات ريفيّة عامرة بالأحلام والرؤى والمواقف في مجموعتها القصصيّة ( ريحانتي ) في نصها ( الحُبّ ) تبرز الكاتبة شفافية الروح الإنسانية في معادلاتها المهزوزة أم نكرانها بحاجاتها العاطفيّة؛ ويأتي الحوار استنطاقا لخبايا الذوات في الاقتراب من الحاجات العاطفيّة التي يولّدها الحب. “ عيسى حدثني عن الحب ........... هل نصلُح له ويصلح لنا؟ “ ص10 هل السؤال عن الحب فعلا أم عن عدم اكتماله فينا، فليس المعنى في ما يمكن أن يكون خبيء الروح هنا، بل فيما يمكن أن يكملها به. الكثير من المشاعر يمكن أن توجّه البشري إلى موقف واحد؛ بينما يمتزج الشعور بالحب بمواقفه باعتباره المعبر الأساسي عن هشاشته. “ تدفع بك أرجوحة الأحلام إلى فضاء ورديّ مليء بالفراشات والزهور وقصائد الغزل والعبارات الآسرة “ ص10 في نصّها ( عطرة ) ينمو الحب بريئا في قلب الصبي ( سعيد ) ممتزجا بتفاصيل اليوميّ المعتادة؛ حيث ينمو الحب إلفة خجولة في البحث عن إحدى اختبارات الحياة العاطفية في سنٍّ مبكرة؛ باعتبار الطفولة إضاءة الروح بعيدا عن انحراف الطبع في حياة الرّيف. “ يناولها الباغةَ وهو ينظر إلى داخل المنزل .. تتنبّه أنه يبحث عن صغارها .. دون أن يسألها تخبره أنهم ذهبوا جميعهم مع والدهم إلى السّوق “ص27. لا حيلة للحب الذي لا يُسمع في بصيص نوره على القلوب، بل قد يُحمَّل عبء الخروج إلى ما لا يُحمد عقباه، على الرغم من نقائه الريفيّ. “ فين عطْرة ؟ “ “ أجي بعد التراويح نلعب كيرم، ونسمر ؟ “ ص29 يقول سعيد. “ عطْرة تغطّتْ ما عاد يخلونها أهلي تلعب معنا “ ص29 ردّ أخوانها. القصّة تحتفظ بحقها في التلويح إلى بساطة الجانب العاطفي الذي يميل الناس عادة في الثقافات المكرّرة إلى زجّه في الزوايا الحادّة خوفا من مسّ التابوهات؛ لكنه يبقى مزهرا برغبات الإنسان وحاجته إلى الشعور الصادق بالحب. ( حارث ) في نص ( ريحانتي ) ذات تبحث عن حرّيته الداخليّة؛ ذات تمثّل صراعاتنا البسيطة في اللجو إلى الداخل لحظة الشعور بثقل العلاقات والارتباطات، أدوات الكاتبة في تشكيل خطاب نصّها الفنيّ تقوم على المونولوج العام من حيث تعميم الذات؛ فالمؤثرات وإن اختلفت في مستوياتها متشابهة في أثر ركامها على البشري. أسلوب الأمر في النص هي الرغبة البشرية في الانعتاق من عبء الذات في كثير من تراخيها عن البحث الصادق عن اختلافها في رؤية مكنونها المنعكس عليها بكل أشكال صراعات مشاعرها الفطريّة. “ اقصدْ الجهة التي لم تشطرها رهبة الفراق ويشوّه ملامحها حائط الزمن الحائل بين تشظّي الغياب ودهشة العودة “ص٥٧ هذا الانشطار ليس تخلٍّ بل عودة إلى الشعور بطبيعة الوجع ذاته في شكله الإنسانيّ. المزاوجة بين الرغبة والحقيقة في تماسٍّ يغيب عن الكثيرين خوفا من الاعتراف أمام الذات أو الآخر؛ لهذا تكررت أفعال الأمر نوعا من الاعتراف والمواجهة ( تزوّد، املأ، ابتكر، تربّصْ )؛ أداة تناسب دفاع الذات عن نفسها أمام شعورها بالعجز أو الانشطار أو العاطفة أو شكل من أشكال التّصدّع، ليكون القريب إلى القلب ما يحدث نزوعا إلى النجاة من العبء والانطفاء. تأتي القصة القصيرة جدا في المجموعة ـ إذا كان من المكن أن نضعها في هذا النوع السردي ـ مختلفة البناء؛ ليس لأنني أسعى إلى خلق شكل آخر فليس هذا مما يشغلني هنا، لكن تداخل الأشكال الفنية خلق مزيجا غريبا من التجارب الحديثة فنجد مثلا إبراز الفكرة فنيّا للمتلقي بمفارقة واضحة المعالم؛ لكنها تنحو بالنص إلى مستوى المغايرة التي تعكس اهتمام الكاتبة بتنويع أدواتها واشتغالها على خطابها الفني. في نصيْ ( ندم ) و ( خذلان ) يدفع المشهد المفارقة إلى تحليل المتشابه من مواقف متكررة في حياة الإنسان عاطفيا واجتماعيّا؛ لتوكّد فكرة التّشظي العاطفي بين زوجين استندا على صيرورة طبيعيّة في تحوّل العلاقات وتطوّرها اجتماعيّا إلى شكل حاد ضمن الأطر العاجزة عن تشكيل ثوابت للتواصل العاطفي. بين خيبة الحب، وصورة تلاشي الأمنيات؛ يشكّل الاختزال فاعلا سرديّا إذ لم تعد الذائقة الفنية المعاصرة بحاجة إلى وسائل تخيليّة جاهزة تقوم بطرح المدلولات على عاتق الدّوال والعلاقات بين التركيب الفنّي والمعنى المعلّب. نص ( ندم ) يستثمر مواقف تعبّر عن مشتركات كثيرة كُتب لبعض قصصها أن تتكرّر ضمن كسر اختيارات الذوات العاطفية في ثقتها الكبيرة في ثبات نظائرها، ونص ( خذلان ) يعيد ما يكسر هذه الذوات في تضحياتها الكبيرة؛ نسي أحدهما نفسه خلف الآخر فلم يجدها بأي شكل كانت. لو تركت الكاتبة هذه المواقف في قصّة طويلة لما استطاع النص فنّيا أن يخرج إلى فضاء فسيح في رسم صورة الخذلان كما استعاد الاختزال في هذه التجربة هذا الكسر بما يمكن أن يتشعّب في استقراء الذوات إلى مساحات واقعيّة لم تعرف الخروج إلينا بفاعل الوصف المستهلك لتقاطعات هذا الخذلان. تبحث كفى عسيري عن شعريّتها الفنيّة في محاولة الإفساح عن عوالم كثيرة تشكّلها ذوات مجموعتها. شكل آخر لانفتاح الأجناس الأدبيّة، وهذا بحث آخر للفضاء الذي يمنحه الشعر للعمل السردي؛ فالذوات لا تختبئ هنا كما يفهم البعض حضور الشعريّة هنا؛ بل على العكس تماما إنها تريد أن تستحضر كل التجارب، فتجد أن السرد الفني يضيق بمباشرة العمق الفني، ومن جهة أخرى تجد بعض الأعمال روحها في تشكيل الصورة أو المشهد الفنيين في القصة شعرية مختزلة، وهذا بطبيعة الحال كثيرا ما يوقع كثيرها في مساحة بلا هويّة. في نصها ( تنبِّه ) تتحقِّق الشعرية فكرة تجمع بين رأفة الأمل وخيبة الواقع، وليس بالضرورة أن يقدم نصّ يحتمي بالشعرية الفنية مشهدا متحقّقا برؤية فنية سرديّة؛ فالكاتبة تبني عمق المخيلة بما يشع به التركيب للقراءات والتفسيرات الحديثة. “ حين هممتُ بقسمة التفاحة إلى نصفين رأيت في المرآة نصفَ رجل “ ص19 شعرية القصّة تتشبُ بفاعليّة الملفوظ في علاقاته بتوجيه التركيب، وانزياحات الخطاب الشعري المهيمن عليها تجعل لكل مؤشر لفظيّ دورا فنيّا لا يمكن تأجيل تفسيره إلى نقطة الأزمة القصصيّة؛ لأنه يحمل الأزمة بشكل مختلف عنها في القصة والقصة القصيرة؛ ويكفي أن تقدّم التفاحة الجانب الميثولوجي العميق للعلاقة الفاتنة والحساسة بين الرجل والمرأة، فضلا عن الاحتياج بينهما بين القسوة واللطف، وأن تعكس المرآة الذات البشرية في اعترافاتها برغباتها وانكساراتها. تجربة كفى عسيري أنموذج للأعمال التي تنظر إلى الأدوات السردية بشكل مختلف وإن تقاطعت كثيرا مع المشتركات الفنية