النقد السينمائي النسوي.

حين نتأمل مسار الفكر الإنساني في القرن المنصرم، نجد أن النسوية برزت كإحدى أهم الحركات الفكرية والاجتماعية والثقافية التي تركت أثرًا عميقًا في إعادة صياغة العلاقة بين الرجل والمرأة. تعود جذور النسوية الحديثة إلى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين مع ما عُرف بـ الموجة الأولى، التي ركزت على حقوق المرأة القانونية والسياسية، خصوصًا حقها في التعليم والتصويت. ثم جاءت الموجة الثانية في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، مركّزة على التحرر الجسدي والاجتماعي وإعادة النظر في الأدوار التقليدية للجنسين، متأثرة بحركات الحقوق المدنية في أميركا واحتجاجات 1968 في أوروبا. أمّا الموجة الثالثة التي برزت منذ تسعينيات القرن الماضي، فقد ركزت على قضايا الهوية، والعرق، والطبقات الاجتماعية، مؤكدة أن تجربة المرأة ليست واحدة بل متعدّدة تبعًا للسياقات الثقافية. النسوية، في جوهرها، لا تعني العداء للرجل، وإنما تعني مقاومة كل أشكال التمييز القائم على النوع الاجتماعي (الجندر). وهي ليست تيارًا أحاديًا، بل تتشعّب إلى مدارس واتجاهات: النسوية الليبرالية التي تسعى لتعديل القوانين والحقوق، النسوية الراديكالية التي تكشف عن البنى العميقة للسلطة الذكورية، والنسوية ما بعد الكولونيالية التي تضيء علاقة اضطهاد النساء بتاريخ الاستعمار والعنصرية. هذا المسار الفكري سرعان ما وجد صداه في مجال السينما، وأصبح تيارًا، ذلك الفن الذي يُعتبر مرآة للمجتمع وأداة لتشكيل المخيلة الجمعية. منذ سبعينيات القرن العشرين، ومع صعود الموجة الثانية من النسوية، بدأ النقاد يتساءلون: كيف تظهر المرأة على الشاشة؟ هل تُمنح صوتًا فاعلًا، أم تُختزل إلى صورة أو رمز؟ هنا برز ما يُعرف بـ النقد السينمائي النسوي، وهو تيار نقدي يسعى إلى قراءة الأفلام من منظور نسوي، عبر تحليل تمثيلات المرأة وكشف الأنماط الذكورية التي تكرّس تهميشها أو تجعلها موضوعًا للمتعة البصرية. أحد أهم المحطات التأسيسية في هذا النقد جاء عام 1975، حين نشرت الباحثة البريطانية لورا مالفي مقالتها الشهيرة “المتعة البصرية والسرد السينمائي” في مجلة سكرين، في هذه المقالة قدّمت مالفي مفهوم النظرة الذكورية (Male Gaze)، الذي يصف الكيفية التي تجعل السينما الكلاسيكية من المشاهد الافتراضي رجلًا، فيما تُقدّم المرأة كموضوع سلبي للمتعة البصرية، لا كفاعل درامي متكامل. هذا المفهوم أصبح منذ ذلك الحين حجر الزاوية في الدراسات السينمائية النسوية، وأعاد تشكيل النقاشات النقدية حول علاقة الكاميرا بالجندر. ينشغل النقد السينمائي النسوي بجملة من الأسئلة: هل تستغل المرأة للإثارة فقط؟ وكيف يُعرض جسد المرأة في الفيلم؟ هل تملك حق السرد أم يُروى العالم من منظور الرجل؟ هل تتحدث بقدر ما يتحدث الرجال على الشاشة؟ وهل يُنظر إليها ككائن مستقل، أم كظل لرغبات الآخر؟ هذه الأسئلة انطلقت نحو تطبيقات عملية في قراءة الأفلام. فمثلاً، جرى تحليل فيلم Gone Girl (2014) للمخرجة ديفيد فينشر باعتباره نصًا نسويًا يقدّم بطلة تواجه النظام الذكوري بأسلوبها الخاص، لتقلب معايير اللعبة. كما تعرّضت أفلام ديزني المبكرة مثل سنو وايت (1937) والجميلة النائمة” (1959) إلى نقد شديد، لكونها تُكرّس صورة المرأة ككائن ضعيف ينتظر الخلاص من الأمير. في المقابل، نجد تحولات جذرية في أفلام مثل Frozen (2013) وMoana (2016)، حيث البطلات يكتبن مصيرهن بأنفسهن، بعيدًا عن سلطة البطل الذكر. أثبت هذا التيار النقدي أن السينما فضاء أيديولوجي يعيد إنتاج علاقات القوة. ومع مرور الوقت، تطورت القراءات لتشمل جوانب أعمق مثل تقاطع النوع مع العرق والطبقة، خصوصًا منذ تسعينيات القرن الماضي مع تصاعد النسوية التقاطعية (Intersectional Feminism)، التي أسهمت في إثراء النقد السينمائي النسوي بزاوية أكثر شمولًا. النسوية بما تحمله من إرث تاريخي وفكري منذ مطلع القرن العشرين، أصبحت إطارًا معرفيًا يسائل الفنون والآداب، ويكشف كيف تساهم في صياغة الوعي الجمعي. هي في جوهرها محاولة إنسانية لإعادة التوازن بين الجنسين، لا تعادي وتتصارع مع الرجل أو تتنصل من الدور الاجتماعي، إنما سعيًا لتكافؤ الفرص والكرامة الإنسانية، لكن هناك من يفهمها بأنها معاداة. والسينما بما لها من سحر جماهيري، كانت ولا تزال من أهم الساحات التي تحتدم فيها هذه الأسئلة.