في المعنى الغائب بين السطور.

في زمنٍ يفيض بالصوت والضجيج، تبدو الكلمة المكتوبة كجُزُرٍ نائية، لا يصلها إلا مَن أُصيب بعشق التأمل وفتنة المعنى. وربما لهذا ظل الأدب، رغم تقلبات العصور وتبدّل الأذواق، ملاذًا أول وأخير لمن يؤمن أن العالم لا يُفهم إلا عبر الكلمة، ولا يُرمَّم إلا بالشعور. الكتابة ليست قرارًا عابرًا، ولا موهبة عابرة. إنها انحيازٌ دائم لما هو داخلي، لما هو أعمق من ظاهر الأشياء. ليست تعبيرًا عن لحظة، بل إنقاذٌ لها من الزوال. ولذلك، كل نصّ حقيقي هو شكل من أشكال الخلود، مهما بدا بسيطًا أو هامشيًا. أنا لا أكتب لأُظهر ما أعرف، بل لأُخفي ما لا يُقال. أكتب لأن هناك أشياء في هذا العالم لا تُفسَّر إلا حين تُسرد، لا تُشفى إلا حين تُروى. وما الكتابة إلا طقسٌ من طقوس النجاة، لا ينجو فيه الكاتب وحده، بل القارئ أيضًا، إذ يجد نفسه مرآة غيره في مفترق الحروف. ثمة مدن لا تحتاج أن تزورها كي تشعر بها، بل يكفي أن تمرّ في ظلال أسمائها، وتلمس إرثها في سطور من مرّوا بها. مدن تشبه القصائد، تتّسع للمعنى ولا تضيّق على الروح. لم أزر كل هذه المدن، لكنني عشتها مرارًا في الحبر الذي كتب عنها، في المجلات التي احتضنت أصوات الأدباء، وفي المعارض التي اجتمعت فيها الحكايات القادمة من كل العواصم. تلك المدن، التي جعلت من الثقافة هوية، ومن الأدب قانونًا يوميًا، لا يمكن إلا أن تحتل مكانًا خاصًا في وجدان كل من يرى في الكلمة بوصلة وجوده. في عالم عربي تتسابق فيه الحواضر على العمران المادي، ما أحوجنا إلى أن تبني مدننا ما هو أبقى: الإنسان. ومن يعرف كيف يُبنى الإنسان بالكلمة، يعرف أن الثقافة لا تُشبه سواها، فهي لا تكتفي بتأريخ الماضي، بل تمنحه مساحة ليحاور الحاضر، ويصنع للمستقبل ذاكرة تليق. من طرابلس، حيث الحرف يخرج من رماد الوجع والنهوض، وحيث الكلمة تحاول أن تكون جسرًا بين الانكسار والحياة، أؤمن أن الثقافة لا تعترف بالجغرافيا، ولا تُقاس بالحدود. ما يجمعنا، نحن أبناء الحرف، أكثر بكثير مما يفرّقنا. الكتابة لا تحتاج إلى خريطة لتجمع الأرواح، بل إلى صدق. لذلك، حين أكتب من طرابلس، أشعر أنني أكتب مع من يكتبون من السعودية، ومن الشارقة، ومن كل مدينة عربية أخرى. الكلمة الحقيقية لا تعيش في مكان، بل في الزمن المشترك الذي نصنعه نحن، كتّاب هذه الأرض. في تجربتي الأدبية، لم تكن البداية مجرّد حماس هاوٍ، بل كانت صوتًا تراكم داخلي على مدى سنوات، نضج في الصحافة وتحوّل إلى كتابة تسعى لما وراء الخبر، لما وراء اللحظة. أدركت أن الأدب ليس وصفًا، بل إعادة ترتيب للعالم وفق حساسيةٍ خاصة. وكل أديب، مهما تنوّعت أساليبه، يكتب ليخلق توازنًا مفقودًا في داخله وفي محيطه. نحن نكتب كي نُفهم. نكتب لأن الحياة غالبًا لا تترك لنا فرصة للكلام. وحين تُغلق الأبواب، يبقى القلم مفتاحًا سريًّا للبوح. لذلك، كانت الكتابة دومًا مساحة مقاومة، مساحة للكرامة، وللاحتفاظ بصورة الإنسان في مواجهة ما يُراد له أن يكونه. ما زلت أؤمن أن الأدب العربي اليوم يعيش بين قطبين: أحدهما يلهث خلف التجريب دون روح، والآخر يتمسّك بالأصالة دون تطوير. وأما الكتابة التي أنحاز إليها، فهي تلك التي تعرف كيف توازن بين الجذور والآفاق، بين التراث والتجديد، دون أن تفقد طهارتها الأولى: الصدق. وربما لهذا، أجد في المنابر الثقافية العربية التي تحتفي بالكلمة نبضًا استثنائيًّا لهذا التوازن. فهي تحتفي بالكلمة لا بصفتها زينة لغوية، بل لأنها حاملٌ للهوية والفكر، مرآة لما كنا وما نريد أن نكون. وفي عالم تُغيّبه السرعة عن التأمل، فإن التريّث في قراءة نص جيد هو فعل مقاومة جميل. *كاتبة ليبية