مذكرات والدي كما رواها لي ..

حينما كان الزمن يمشي على مهل .

في زوايا الذاكرة، حيث لاتصل ضوضاء الحاضر، تسكن ملامح رجلٍ من الجنوب... رجلٌ لم يكن عاديًّا في عيني، لأنه والدي. شَهِدْتُ معه الزمن وهو يتبدّل، رأيت في خطواته حكاية وطن، وفي صوته بقايا الجبل، وسكون القرية الأولى. لم يكن يدون سيرته، ولم يبحث عن ضوء، لكن الحياة كتبتها على قسمات وجهه، وسأحاول أن أكتب بعضها هنا... لا كما قالها، بل كما شعرت بها حينما لسان حاله يقول: كنتُ طفلًا، كنت أركض حافي القدمين بين الحقول، أراقب الشمس وهي تغيب خلف الجبال، تاركةً خلفها ظلالًا طويلة تملأ القرية بالسكينة. كنا نعيش في عالم صغير، لكنه مليء بالحياة. اليوم، وأنا في شيخوختي، أجلس على شرفة منزلي الحديث، أنظر إلى الماضي البعيد وأتساءل: كيف تبدّلت ملامح قريتنا بهذه الصورة؟ كيف غيّرت العقود الماضية أسلوب حياتنا وثقافتنا؟ في الماضي، كانت قريتنا تُشبه لوحة فنية رسمتها الطبيعة بحب ودقّة. كل ركن فيها كان يتحدّث عن البساطة والجمال. البيوت كانت صغيرة، مبنيّة من الحجارة التي كانت تُقطَع يدويًّا من الجبال المحيطة، والطين الذي كان يجمعه الأهالي من الوديان القريبة، ليصبح مادة البناء الرئيسية. لم تكن هذه البيوت مجرد مأوى، بل كانت تجسيدًا لروح الأهالي وتاريخهم. أذكر بيتنا الصغير الذي كان يحتل مكانًا مرتفعًا في القرية، بجدرانه السميكة المصنوعة من الحجارة المتراصّة بعناية. كان السطح هو المكان المفضل لي ولإخوتي. كنا نصعد إليه في الليالي الصافية، نجلس تحت السماء المليئة بالنجوم، نحكي القصص ونستمع إلى أصوات الطبيعة من حولنا. السقف نفسه كان مصنوعًا من جذوع أشجار العرعر المغطاة بالطين، وهي طريقة محلية للحفاظ على دفء المنزل في الشتاء وبرودته في الصيف. الأزقة في القرية (السبيل)كانت ضيقة ومتعرّجة، وكأنها تدعوك لاستكشاف أسرارها. بعضها كان ينتهي بساحات صغيرة، حيث يتجمع الأطفال للعب، أو النساء لجلب الماء من الآبار القريبة. لم تكن هناك طرق معبّدة، بل مسارات ترابية (دروب) تتخللها الحجارة. هذه الأزقة لم تكن مجرد طرقات، بل كانت شرايين حياة تربط بين البيوت، وتعكس قرب الناس من بعضهم بعضا. إذا أردنا الذهاب إلى قرية أخرى، كانت الرحلة مغامرة بحد ذاتها. كنا نسير لساعات عبر الجبال، نقطع الوديان، ونصعد المرتفعات. أحيانًا كنا نمتطي الحمير، التي لم تكن مجرد وسيلة نقل، بل كانت شريكًا أساسيًّا في حياة الأهالي. كانت تحمل المحاصيل، وتنقل الماء، وتساعدنا في التنقل. ومثلما تغيّرت ملامح البيوت والطرقات، لم تكن الحياة الاجتماعية بمنأى عن هذا التحول. فالعلاقات التي كانت تجسّد روح الجماعة في كل تفاصيلها، بدأت تتأثر مع مرور الزمن. شُقّت الطرق المعبدة عبر الجبال، لتربط قريتنا بالقرى والمدن المجاورة. لم نعد بحاجة إلى السّير لساعات طويلة للوصول إلى الأسواق، أو زيارة الأقارب. السيارات دخلت القرية، وحلّت محل الحمير التي كانت جزءًا من حياتنا اليومية. البيوت الحجرية التقليدية بدأت تختفي تدريجيًّا، لتحلّ مكانها المنازل الحديثة المبنيّة من الإسمنت والطوب. هذه المنازل كانت أكبر وأكثر رفاهية، مزودة بالكهرباء والمياه الجارية، لكنها افتقدت ذلك الطابع التقليدي الذي كان يجعل كل منزل مميزًا. الجدران الأسمنتية، رغم قوتها، لم تحمل نفس الدفء الذي كانت تحمله الجدران الحجريّة. حتى التصاميم تغيرت. في الماضي، كانت المنازل تُبنى بشكل متقارب، وكأنها تعانق بعضها بعضا، لتعكس ترابط أهل القرية وتكاتفهم. أما اليوم، فقد أصبحت المنازل متباعدة، محاطة بأسوار عالية، تعكس طابعًا أكثر خصوصية. ورغم أن هذا التقدم العمراني سهّل حياتنا كثيرًا، إلا أنني أحيانًا أحنّ لتلك الأزقة القديمة التي كانت شاهدة على طفولتنا. أحنّ إلى تلك البيوت التي كانت تحمل في جدرانها قصص أجيال مرّت من هنا، وتركت بصمتها في كل حجر وطين. نعم، أصبحت الحياة أكثر راحة، لكنني أشعر أحيانًا أن شيئًا من روح القرية قد ضاع وسط هذا التغيير. التغيير العمراني لم يكن مجرّد تبدّل في شكل البيوت أو الطرق، بل كان جزءًا من تحوّل أكبر في نمط حياتنا. فقد جلب معه الراحة والتقدم، لكنه أخذ منا شيئًا من البساطة التي كانت تميز حياتنا القديمة. ربما هذا هو ثمن التطور، أن نكسب شيئًا جديدًا، لكننا نخسر في المقابل جزءًا من ماضينا. وحيث كانت العلاقات بين الناس مليئة بالدفء والتلاحم، كانت العادات والتقاليد تعكس هذا الترابط. كل مناسبة اجتماعية كانت فرصة لتعزيز هذه الروابط، سواء في الأفراح أو الأحزان. العلاقات بين الناس لم تكن مجرد لقاءات عابرة، بل كانت أشبه بشجرة وارفة الظلال، تمتدّ جذورها عميقًا في الأرض، وتتشابك أغصانها لتربط الجميع معًا. الجيران لم يكونوا مجرد أشخاص يعيشون بجوارك، بل كانوا جزءًا من عائلتك. إذا اشتكى أحدهم من مرض أو عانى من ضيق، كان الجميع يهرعون إليه، يقدّمون له المساعدة بكل حبّ، وكأنهم يتقاسمون معه أوجاعه. أذكر كيف كانت أمي تعد الطعام كلما سمعت أن أحد الجيران مريض، وتطلب مني أن أحمله إليهم، فترافقني دعواتها الصادقة بالشفاء. كانت الولائم مناسبات لا تقتصر على عائلة المضيّف وحدها، بل تمتد لتشمل القرية بأكملها. لم تكن الدعوة تحتاج إلى بطاقة أو موعد، فالجميع كان يعرف أنه مدعو. الرجال يجتمعون في الساحات، يتبادلون الأحاديث والضحكات، بينما النساء ينشغلن بتنظيم الطعام، ومساعدة بعضهن بعضا في جو من البهجة والتعاون. كانت هذه المناسبات أشبه بعيد جماعي، حيث تختلط الأصوات بالضحكات، وتُنسج الذكريات التي تبقى عالقة في الأذهان. أما المجالس، فقد كانت قلب القرية النابض. كل مساء، يجتمع الرجال في مجلس القرية، الذي كان بسيطًا في شكله، لكنه غني بروحه. هناك، كان الكبار يروون حكايات الماضي، قصصًا عن الشجاعة والكرم، وعن الأوقات الصعبة التي واجهوها معًا. كان الشباب يجلسون بالقرب، يصغون باهتمام، وكأنهم ينقلون الحكمة من جيل إلى آخر. لم تكن المجالس مكانًا للأحاديث فقط، بل كانت أشبه بمدرسة اجتماعية، يتعلم فيها الجميع عن الحياة، ويجدون فيها الحلول لمشاكلهم. في الصباح، كانت النساء يجتمعن حول الأفران الطينية (الميفا) أو (الموَسم)، يَطْحَنّ الحبوب بأيدٍ قوية، ويخبزن الخبز (الدوح) الذي يملأ رائحته أرجاء القرية. أثناء ذلك، كانت الأحاديث تدور بلا توقف، عن الحياة اليومية، عن الأبناء، وعن كل ما يشغل بالهن. لم تكن تلك اللقاءات تقتصر على العمل، بل كانت فرصة لتبادل النصائح والحكايات التي تضفي على الأيام طابعًا خاصًا. أذكر كيف كانت أمي تعود من تلك اللقاءات محمّلة بالقصص، ترويها لنا ونحن نجلس حولها، وكأنها تنقل إلينا جزءًا من عالمها. المرأة في قريتنا لم تكن تعيش في الظل كما يُظن أحيانًا. على العكس، كانت هي القلب النابض للحياة اليومية. كانت تعمل جنبًا إلى جنب مع الرجل، في الحقول والبيت، وتتحمل أعباءً لا يقدر عليها إلا من أوتي عزيمة قوية. أذكر كيف كانت أمي تستيقظ قبل الفجر، تحلب الماشية، وتخبز الخبز، ثم تحمل الماء من البئر، لتبدأ يومًا طويلًا من العمل في الحقل (البلاد). لم يكن ذلك مجرد عمل شاق، بل كان تعبيرًا عن قوة المرأة وصلابتها، ودورها المحوري في بناء الأسرة والمجتمع. في المناسبات الاجتماعية، كانت النساء هن روح الاحتفال. كن يغنين الأهازيج التقليدية التي تحمل في كلماتها تاريخًا طويلًا من الفخر والانتماء. كن يُزَيِّنّ الساحات، ويشاركن في تنظيم كل تفاصيل المناسبة، من تحضير الطعام إلى استقبال الضيوف. كانت المرأة في قريتنا عمود المجتمع، لا مجرد جزء منه. لكن مع مرور الزمن، تغيرت الحياة. التكنولوجيا دخلت كل بيت، وأخذت معها جزءًا من روح التواصل التي كانت تجمعنا. لم تعد الولائم تجمع الجميع كما في السابق، وأصبحت العلاقات أكثر خصوصية. المجالس التي كانت تعج بالأحاديث والقصص أصبحت أقل حيوية، وأصبح الناس يميلون إلى الانشغال بحياتهم الخاصة أكثر من الاجتماع مع الآخرين. حتى النساء، اللواتي كن يجتمعن صباحًا حول الأفران، لم يعدن يحتجن إلى ذلك في ظل وجود الأفران الحديثة، التي جعلت كل شيء أسهل، لكنها أخذت معها تلك اللحظات الدافئة من التواصل. أحيانًا، وأنا أجلس على شرفة منزلي الحديث، أسترجع تلك الأيام وأشعر بالحنين. أحن إلى ذلك الدفء الذي كان يملأ حياتنا، وإلى تلك العلاقات التي لم تكن تُبنى على المصالح، بل على المحبة الصادقة. صحيح أن الحياة اليوم أكثر راحة، لكنني أتساءل: هل نحن أكثر سعادة؟ أم أن شيئًا ما قد فُقد وسط كل هذا التقدم؟ ما زالت ذكرياتنا القديمة تعيش في زوايا القرية، في تلك الأزقة التي كنا نلعب فيها، وفي تلك المجالس التي كانت تملأها القصص. وربما، رغم كل ما تغير، ما زالت الأرواح التي عاشت معنا تحمل شيئًا من دفء الماضي، لتُذكرنا بأن الحياة ليست بما نملكه، بل بمن نتشاركه. والعادات في قريتنا كانت كالجذور التي تضرب في الأرض، راسخة لا تتغير بسهولة، ومليئة بالمعاني التي تعبّر عن روح المجتمع وترابطه. أذكر أن كل مناسبة اجتماعية، سواء كانت فرحًا أم حزنًا، كانت حدثًا يشارك فيه الجميع بلا استثناء. الأعراس، على سبيل المثال، لم تكن مجرد احتفالات تخص العروسين وأسرتيهما، بل كانت مناسبة تجمع القرية بأكملها، وكأنها عيد يتشاركه الجميع. كان الاحتفال يبدأ بمجرد إعلان الموعد، فتتحول القرية إلى خلية نحل. الرجال والنساء، الكبار والصغار، لكل منهم دور يقوم به. الرجال كانوا يتولون إعداد الساحات وتجهيز المكان للعرضة، تلك الرقصة الشعبية التي تجمعهم في صفوف متراصة، يحملون الخناجر والبنادق ويرددون الأهازيج التي تتحدث عن الشجاعة والكرم. كنت وأنا طفل أتسلل بين الصفوف، أراقبهم بانبهار، وأحلم باليوم الذي أستطيع فيه الانضمام إليهم. أما النساء، فكنّ يجتمعن في المنازل لتحضير الطعام، ويغنين الأهازيج الشعبية في صفين متقابلين (الخُطْوَة) و(الزَّحْفَة) التي تحمل في كلماتها قصص الحب والشجاعة، وكأنهن ينسجن من أصواتهن لوحة من الفرح. الطعام كان جزءًا أساسيًّا في أي مناسبة. لم يكن هناك طهاة محترفون، أو مطاعم تقدّم الأطعمة الجاهزة. كل شيء كان يُعد بأيدي النساء في المنازل، من خبز التنور إلى (العريكة) أو (المبثوث) إلى اللحم المطهو على الحطب (الحنيذ). كان إعداد الطعام يتطلب جهدًا كبيرًا، لكنه كان يحمل في طياته بركات التعاون وروح الجماعة. أذكر كيف كانت جدتي تجلس لساعات طويلة مع النسوة، يطهين الطعام، ويتبادلن الأحاديث التي كانت تضفي على العمل متعة خاصة. حتى في الأوقات العادية، كانت العادات جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية. استقبال الضيوف، على سبيل المثال، كان يتم بحفاوة لا مثيل لها. إذا جاء ضيف إلى المنزل، كان أهل البيت يُعدّون القهوة العربية والتمر في الحال، ويجلسون معه لساعات يتبادلون الحديث. لم يكن الضيف يحتاج إلى دعوة مسبقة، فقد كانت أبواب البيوت مفتوحة دائمًا، والكرم عادة لا يمكن التخلي عنها. في المساء، كانت العادات تُكمل يومنا. الرجال يجتمعون في مجلس النائب ليس فقط لتبادل الأخبار، بل أيضًا لمناقشة شؤون القرية، وحلّ المشكلات التي قد تطرأ بين الناس. كانت القرارات الجماعية تُتخذ في هذه المجالس، بحضور الجميع، في جو من الاحترام والتفاهم. أما النساء، فكنّ يجتمعن في مجموعات صغيرة، يُطَرِّزْنَ الملابس، أو يعملن على تجهيز مستلزمات المنزل، بينما يتبادلن الأحاديث والنصائح. لكن، كما هي الحال مع كل شيء، تغيّرت العادات مع مرور الزمن. الأعراس، التي كانت تُقام في الساحات تحت السماء المفتوحة، أصبحت تُقام في قاعات حديثة. لم تعد تلك الساحات تعجّ بالناس، ولم تعد الأهازيج تُسمع كما في الماضي. حتى الطعام، الذي كان يُعدّ يدويًّا بكل حبّ، أصبح يتم طلبه من المطاعم، ليُقَدَّمَ في صحون فاخرة لكنها بلا روح. استقبال الضيوف أيضًا تغيرّ. لم تعد البيوت مفتوحة كما كانت، وأصبح الناس يقدّمون الضيافة بشكل أكثر رسميّة. القهوة العربية لا تزال حاضرة، لكنها تُقدم بسرعة، وتفتقد ذلك الدفء الذي كان يميزها. العلاقات الاجتماعية أصبحت أكثر خصوصيّة، وأقل شموليّة، وكأن الحداثة جاءت لتضع بيننا وبين بعضنا جدرانًا غير مرئيّة. رغم كل شيء، ما زالت بعض العادات قائمة، لكنها فقدت جزءًا من روحها القديمة. أحنّ لتلك الأيام التي كانت العادات فيها تعبّر عن هويتنا، وتُشعرنا بأننا جزء من مجتمع مترابط. أحنّ إلى أصوات العرضة التي كانت تملأ الساحات، وإلى رائحة خبز التنور الطازج الذي كانت تعده النساء، وإلى دفء القهوة التي كانت تُقدم بحب صادق. ما تغير ليس العادات بحدّ ذاتها، بل الروح التي كانت تسكنها. أحيانًا أفكر أن العادات هي انعكاس لما في قلوبنا، وحين كانت قلوبنا مليئة بالمحبة والبساطة، كانت عاداتنا كذلك. ربما لا تستطيع الحداثة أن تعيد إلينا ما فقدناه، لكنها بالتأكيد تستطيع أن تُذكرنا بأن ما يربطنا ببعضنا ليس القاعات الفاخرة أو الأطعمة الجاهزة، بل تلك الروح التي كانت تجعل من كل مناسبة فرصة لنكون معًا. وكما كانت العادات والتقاليد جزءًا أساسيًّا من حياتنا اليومية، كان التعليم أيضًا أحد الأسس التي شهدت تحولًا كبيرًا. فبينما كنا نتعلم في الكتاتيب بأساليب بسيطة، جاءت المدارس الحديثة لتفتح لنا آفاقًا جديدة. في طفولتي، كانت الكتاتيب هي المدرسة الأولى لنا. لم تكن هناك فصول دراسية أو سبورات حديثة، فقط غرفة صغيرة، أو أحيانًا مظلة بسيطة تحت شجرة، يجتمع فيها الأطفال حول الشيخ. كنا نجلس على الأرض، نحمل ألواحًا خشبية نكتب عليها بالطباشير الأبيض الذي كان يترك أثره على أيدينا وثيابنا. كان الشيخ يعلمنا قراءة القرآن الكريم وحفظه، بالإضافة إلى مبادئ الحساب والكتابة. لم تكن هناك مناهج مطبوعة أو كتب دراسية، بل كانت الدروس تُلقّن شفهيًا، ونُعيدها نحن بصوت مرتفع حتى نحفظها. رغم بساطة التعليم في تلك الأيام، إلا أنه كان مليئًا بالبركة. كنا نتعلم الانضباط والاحترام قبل العلم. أذكر كيف كنا نستيقظ مبكرًا، نحمل ألواحنا، ونتوجه إلى الكُتّاب، حيث ينتظرنا الشيخ بجديته المحببة إلى أنفسنا، يبدأ معنا يومًا جديدًا من التعلّم. كنا نحفظ القرآن ونحن نردّد آياته بصوت واحد، وكانت أصواتنا الصغيرة تملأ القرية بالسكينة والخشوع. مع مرور الوقت، بدأت المدارس الحديثة تدخل إلى القرى. أذكر كيف كان إنشاء أول مدرسة في قريتنا حدثًا كبيرًا، وكيف تجمع الأهالي للاحتفال بهذه المناسبة. كانت المدرسة صغيرة، لكنها بدت لنا كأنها قصر كبير. لأول مرة، رأينا سبورة حقيقية، ومقاعد خشبية مخصصة للطلاب. لم يكن الأمر سهلاً في البداية، خاصة على الآباء الذين لم يعتادوا فكرة أن يغيب أبناؤهم عن العمل في الحقول أو في رعاية الماشية طوال النهار. لكن سرعان ما أدرك الجميع أن التعليم هو المفتاح لتغيير حياة أبنائهم ومستقبلهم. الشباب بدأوا يتطلعون إلى ما هو أبعد من حدود القرية. أصبحوا يسافرون إلى المدن (أبها) لإكمال دراستهم في المدارس الثانوية، ثم في الجامعات. كان ذلك يمثل نقلة نوعية كبيرة في حياتنا. أذكر شابًا من أبناء القرية، أول من حصل على شهادة جامعية، وكيف تحوّل إلى مصدر فخر لنا جميعًا. كان الجميع ينظرون إليه بإعجاب، وكأنه فتح بابًا جديدًا لمستقبل أفضل. لاحقًا، جاء دور الفتيات. في البداية، كان هناك تردد من بعض العائلات في إرسال بناتهم إلى المدارس، لكن مع الوقت، تغيّر الفكر، وأَصْبَحْنَ الفتيات أيضًا جزءًا من هذا التحول. التعليم لم يكن مجرد فرصة لهن لتعلم القراءة والكتابة، بل كان نافذة واسعة فتحت أمامهن أبوابًا جديدة للحياة. اليوم، أصبح لدينا خريجون من الجامعات، بل وحتى من جامعات عالمية. أرى الآن أبناء قريتنا يعملون في مهن لم نكن نحلم بها في الماضي. منهم الأطباء، والمعلمون، والمهندسون، وحتى الباحثين الذين يسافرون حول العالم. التعليم لم يغير الأفراد فقط، بل غيّر المجتمع بأكمله. لقد فتح لنا أفقًا جديدًا، وأعاد تشكيل طريقة تفكيرنا ونظرتنا إلى الحياة. لقد كان التعليم أحد العوامل التي ساهمت في تشكيل ملامح قريتنا الحديثة. وكما تغيرت المنازل والعلاقات، تغيرت أيضًا طريقة رؤيتنا للحياة ومستقبلنا. لكن وسط كل هذا التغير، هناك أشياء تبقى خالدة في الذاكرة. حين أجلس الآن على شرفة منزلي، وأتأمل القرية التي عشت فيها طفولتي، أجد نفسي غارقًا في الذكريات. قريتنا اليوم ليست كما كانت. تغيرت المنازل، وأصبحت أكثر حداثة. الطرق التي كانت ترابية أصبحت الآن معبدة، والسيارات تجوبها بعد أن كانت الدواب هي وسيلتنا الوحيدة للتنقل. العلاقات الاجتماعية، التي كانت تمثل قلب الحياة في الماضي، أصبحت أكثر خصوصية وأقل دفئًا. حتى التعليم، الذي بدأ بلوح خشبيّ وطباشير، أصبح الآن يعتمد على الأجهزة الذكية والإنترنت. لكن رغم كل هذه التغيرات، ما زالت قريتنا تحتفظ بروحها القديمة. الجبال التي كانت تحيط بنا ما زالت شاهدة على كل شيء. تلك الأزقة التي كنا نلعب فيها ونحن أطفال، ما زالت تحمل صدى ضحكاتنا. والأرواح التي عاشت هنا، ونسجت تفاصيل هذه القرية، ما زالت تحيا في كل زاوية، تروي قصصًا عن البساطة والعمل الجماعي والحياة المليئة بالبركة. لكل مرحلة جمالها، ولكل زمن نكهته الخاصة. الماضي كان مليئًا بالدفء والبساطة، لكنه كان أيضًا مليئًا بالتحديات. الحاضر جلب معه الراحة والرفاهية، لكنه أخذ منا جزءًا من تلك الروح التي كانت تجعل الحياة أكثر قربًا وإنسانية. وأنا ممتن أنني كنت شاهدًا على هذا التحول. عشت أيام البساطة، وشهدت كيف نما مجتمعنا من قرية صغيرة تحتضن بيوتها الجبال إلى مجتمع حديث يحمل بين يديه مفاتيح المستقبل. ربما تغيرت ملامح القرية، وربما أصبحنا أكثر انشغالًا بحياتنا، لكنني أعلم أن ذكرياتنا ستبقى دائمًا محفورة هنا، في هذه الأرض التي كانت دائمًا موطنًا لقلوبنا. والخلاصة أن هذه الصفحات، ليست سوى ظل خفيف لذاكرة والدي، وومضة من عمرٍ عاشه بصمت الكبار ونبلهم. كتبتها بمحبة ابنة، وقرأتها بعين القلب، لا بعين الحرف. فما سطّر هنا، هو بعضه فقط... أما الباقي، فقد سكن فينا، واستقر في تفاصيلنا، بصوته، وخطاه، ومكانته التي لا تغيب.