جورية.

عندما كنت صغيرة، كنت أحلم بأرض لا يعرفها سوى حلمي، سكانها أزهار الأنشودة الحرية، وعبيرها فضاء حر طليق كنت أحلم ببيت فوق النجوم، وبطريق فوق الغيوم، وأني ألعب بين الكواكب وأتأرجح بالنجوم. كنت أحلم بقصر ينتظرني منذ الأزل، وأنا فيه السيدة والمحراب والابتهالات. وأراني كيف أسجد فيه مختالة بدموع محبتي وآبار حنيني تملأ أرجاءه، فيتسع على مد النظر وتدخل إليه حمائم السلام بسلام، أحاورها فتلقي علي السلام، وقاطنوه آمنون أبداً، ونخيله مختال بطول شعره، فأصلي مع الأحراج والجبال وأرسل الصدى رأفة بالوادي، أما حوره وصفصافه فينموان أبداً دون أن يستظل أحدهما بظل الآخر، وياسمينه يهمس ببياضه للنسيم ويحلمان معاً بالندى، فلا يخيب ظنهما ويتحول ألقاً عندما تلقى الشمس الحنونة الصباح. كنت أحلم أنني المجدلية يزورها الناصري فيبعثها من جديد امرأة آمنة تصالحت مع نفسها وأحبت ذاتها لذاتها. وأحلم أيضاً أنني أدخل مدينة الحزن الراقي أحمل كآبتي مثلما حمل الناصري صليبه. لقد دخلت آرم ذات العماد. وكم كانت دهشتي كبيرة وذهولي فصل نوار كامل. ودائماً كان الجمال رفيقي ألازم ترانيم صمته وأعزف على أوتار نوره، فكنت من كثرة ما تعلمت من روحي متواضعة مثل الفحمة التي يتواضع داخلها ماس يبهر الأبصار وتلهث وراءه النفوس. لطالما تحاورت مع العندليب والخلد في آن واحد، فطريت لذلك وخبرت مسالك الأرض من ذلك. ومع نعجتي البيضاء وسلامها، وبقرتي وحزنها خبرت موعد ترانيم النواميس، فأدبت روحي بالحمد والثناء. وفجأة أفقت من كل أحلامي تلك على بكاء جورية تخبر جدتي عن مدى الظلم الذي يلحقه زوجها بها، وتقول لها: انظري إلى بدني ماذا فعل به ذلك الوحش؟ فنهضت مذعورة ونظرت من النافذة فرأيت خطوط حذائه كالأختام على جسدها الغض النحيل.. بكيت بكاء مراً عليها وتمنيت لو أنني أستطيع مساعدتها ومد يد العون إليها. ولكن ماذا تفعل طفلة في الثانية عشرة من العمر في مثل هذه الحالة؟ وأدركت أنني على الأرض وأية أرض. وفي المساء ذهبت وجلست وراء منزل جورية علي أراها وأطمئن عليها، ولم تكن لدي الشجاعة لدخول منزلها، وصعقت عندما رأيت عدداً من الرجال يجالسون زوجها على سطح البيت ويخاطبونه بكل احترام. من حينها وأنا أحلم أن تكون الحياة حلماً دائماً ونوماً بلا يقظة.. لقد ألهبت السياط ظهري واخترقت السهام قلبي فضاعت أحلامي وتبخرت خرافاتي. لم أعد أسمع غناء العندليب. ولم أعد أرى آثار المناجذ التي تهرب مني، فكيف السبيل كي أعود طفلة الثانية عشرة، لأضع في أذني قطناً وأنام وأحلم دائماً؟ وهل كان علي أن أسلح أحلامي وأسلح أزهار كرفس؟ ترى كيف أمست جورية؟ قالوا إنها هائمة على وجهها بعدما أخذ زوجها ابنتها الصغيرة إلى لبنان لتعمل هناك خادمة، وعاد وأخبرها أنها ماتت، وأخبر الابنة أن أمها ماتت، والمألوف الفظيع أنني مررت بمنزلها فرأيت رجالاً يجالسونه وهو يقهقه كالضبع. أما عندي يا جورية فكانت دموعك كشآبيب المطر في أيار، لأنك بكيت بعيونهم التي لم تعرف الدموع، وعرفت جيداً كيف ثقبت دموعك قلبي ونفذت إلى قلب الأرض. إلى أين ستهربين يا فتاة الثانية عشرة؟ وكيف ستحلمين مجدداً، والأمر سيان عند الكون وقاطنيه؟ وكيف السبيل لأمدّ أحلامي، وأخلق عالماً جديداً وأمحو الآخر؟ كيف؟ * سوريا – حلب