النثر الشعري، ليس نثرا فقط.
تختلف عناصر النثر اللغوية والأسلوبية عن عناصر الشعر اللغوية. غالبية من تناولوا خصائص النثر إجمالا لم يشترطوا في أي من فنونه احتواءه على لغة شعرية، بل على العكس من ذلك اشترطوا خلو المادة النثرية من التخييل الكثيف، حضا على الوضوح وانقياد المراد عند السماع الأول وذلك لأنهم اعتبروا النثر بكافة أشكاله مادة خطابية مباشرة لا مادة إيحائية مضمرة كما هو الحال في الشعر الذي اختلفوا حول مؤديات أدواته بين إحالتها إلى الغموض أو الوضوح. لكنهم اتفقوا على مقتضيات الشعر وما له من ارتباط بالتسلية والتندر والتلطف والمفاكهة والتخييل والإيحاء والاستعارة، وما للنثر من مشافهة وجدية ومباشرة. لم يتطرق الدارسون في التراث إلى نثر يستخدم لغة الشعر، كما أنهم فرعوا النثر إلى عدة فنون مختلفة العناصر والاستخدامات إشارةً إلى أن كلمة نثر لا تكفي للتعريف بفن لغوي. فلو كانت تكفي لاكتفي بإطلاق كلمة النثر على الرواية والمقالة والقصة والخطبة والرسالة، قولا أن الخطيب سيلقي نثرا، بينما يقول ساعي البريد لإحدى الأمهات: أحمل نثرا من ابنك فلان، في حين يبدأ سارد القصة بجملة: سأقص عليكم نثرا. نحتاج إلى تحديد ماهية النثر لأن لكل شكل منوالا مختلفا واستخداما مغايرا ومناسبة محددة ومكانا وزمانا ملائما وعناصر خاصة. إذا اضطررنا لتحديد ماهية النثر في كل تلك الأشكال فإننا مضطرون لتعيين مصطلح خاص بكائن جديد يستورد الأدوات اللغوية والأسلوبية من الشعر دون قالبه الوزني ثم يضعها في قالب نثري؟ وعلى قبس قول البلاغي أبو إسحاق الصابي كما يروي عنه ابن الأثير: «إن طريق الإحسان في منثور الكلام تخالف طريق الإحسان في منظومه، لأن الترسل هو ما وضح معناه وأعطاك سماعه في أول وهلة ما تضمنته ألفاظه، وأفخر الشعر ما غمض فلم يعطك إلا بعد مماطلة منه» ماذا لو طرأ نوع من النثر يستخدم شرط اللغة الشعرية الذي ذكره أبو إسحاق الصابي من غير الترسل، وهو الغموض الناتج عن أدوات التخييل والاستعارة والتشبيه، الغموض الناتج عن استعمال أدوات الشعر أو أدوات المنظوم حسب الصابي (ما عدا الوزن)، ألا يتوجب ذلك تصنيف هذا النوع المتقاطع في اللغة الشعرية بين النظم والنثر؟ خاصة أن الغموض والتكثيف والحاجة للإمعان عند السماع ليسوا من خصائص النثر! لدينا نثر جديد غير مترسل لا يعطيك معناه عند سماعه في أول وهلة، توافق لغته منظوم الكلام وتخالف في ذات الوقت منثور الكلام، تستخدم الإيحاء لا المباشرة المشترطة في النثر ولا تعطيك لغته معناها إلا بعد مماطلة منها، مماطلة فنية ناتجة عن أدوات الشعر من استعارة وتشبيه وتخييل وتمثيل ومفارقة ومعارضة وتشخيص وإيحاء. يتطلب هذا النوع اصطلاحا متوسطا بين الشعر وبين النثر، على أن كلمة النثر وحدها لا تدل على تصنيف صحيح لأنها كلمة عامة تجمع أصنافا شتى، نحتاج لاصطلاح يعقد قران الشعر والنثر وينسب المولود لكليهما بلا تعصب ولا التفاف بل بتأن وترجيح وتمحيص. تلك اللغة المستحدثة في المولود الجديد تحمل كافة صفات الشعر باستثناء الوزن الذي يجمع النقاد أنه ليس محور المفاضلة بين نص شعري ونص شعري آخر. إذا كان الوزن لا يصلح للمقارنة بين نصيين شعريين، إذن فهو ليس محور النص الشعري من حيث هو نوع من أنواع الكلام. العنصر الذي لا يصلح للمفاضلة لا يصلح كذلك للتعريف بالشعر الذي ينبغي أن يعرف بمحوره لا بقشرته. وعند الحديث عن نص يحتوي على كل ما عدا الوزن من الشعر فإننا أمام مسودة شعرية أو ترجمة شعرية أو شعر منثور لا يكتبه إلا شاعر. فن يقتضي بالضرورة استدعاء نقاد شعريين، النقاد ذاتهم الذين يفككون لغوية الشعر لا إيقاعه ويتعاملون مع فنية كلامه لا فنية موسيقاه، فن لا يعامل معاملة الرواية أو الخطبة أو الرسالة أو القصة بل يعامل معاملة الشعر لأنه يحمل لغته وشيفراته وثنائيات الدوال والمدلولات. إنه كشكول جديد يمكننا من تسجيل القصاصات الفكرية التي كانت مسودات شعرية قام الشاعر بالعدول عنها لعدم ملاءمتها للوزن والقافية. المتوقع من تلك التي تدعى قصيدة النثر أن تكون أرشفة متكاملة لكل الممكنات الشعرية دون تنازل عن أناقتها الأسلوبية وعلوها الصياغي بحرفية وتكامل لغوي يجنب الشاعر من الضرورات والتنازلات الأسلوبية كرمى للوزن والقافية وهذا يعني تحديا أكبر ودربة أعلى وقدرات أميز، لقد فتح المجال دون قيود الأوزان والقوافي امتحانا أمام الشاعر ليكون أقوى مما كان عليه ما يحول عن متانة الأسلوب ولياقة الصياغة ومرونة الفكرة. النثر الشعري عملية ترحيب بأفكار الشاعر الخام ودعوة خاصة لعدم تمزيق وإلغاء المشاريع الشعرية التي يخنقها الوزن وتئدها القافية.