الأستاذ العتيق.

التفت صاحبنا إلى فصل مهم في مدرسته؛ فوجد فيه أقرب الأساتذة، وأسنّ الأساتذة، وأحبّ الأساتذة، ورأى أنّ عرض جوانب أستاذيتهم تعليم ووفاء، وذكرَهم تتميم ونقاء، وكان أولهم أستاذه العتيق. وهو أستاذ عتيق في عمره، وتجربته، وخبرته، وسمْته، فارق الحياة بعد أن جاوز خمسة وتسعين عامًا مُلئت رزانة ونُضجًا، وحكمة وحِلمًا، وصار فيها مثالًا وعلَمًا. إنه جدّ صاحبنا لأمّه: عليُّ بنُ عبدالله الحبيب، الذي عاش قريبًا منه أربعين عامًا، نعِم فيها بجوارٍ نائف، وظلٍّ وارف، كان يستمدّ منه تجارب الحياة، وخبرة السنين، ويرى في تقاسيم وجهه جدّيةَ الكفاح والصبر والعزيمة والبذل، ويجد في كلامه القليل خلاصةَ العلم والـمِراس، ويقتبس من تأمّلاته الصامتة عمقَ التفكير، والتروّيَ في النظر والتقدير. أحبّ الفتى أستاذه وألِفَه، وأحسّ بحبّ الأستاذ له وميلِه إليه، فشكّل ذلك صلة داخلية قويّة، جعلت الفتى منذ أوائل المراهقة يحرص على البقاء مع أستاذه، ويأنس بقربه في إجازاته، ويرافقه في بعض تنقلاته، ويستمع إليه في حكاياته، ويعرف منه أخبار مجتمعه ورجالاته. من جوانب الأستاذية المترسّخة: تلك الجديّة الثابتة، التي تُقرأ في وجهه ومعالمه، وفي تحرّكاته وأعماله؛ لم يجد صاحبنا معها حيِّزًا لهزل أو عبث، ولم يعهد منه تسويفًا أو تأخيرًا لواجب، ولم يدرك فيه تخاذلًا عن حقّ؛ فمثّلت سيرته أمام الفتى سيرة رجل عاش ليعمل، واجتهد ليُقدّم؛ وهكذا تكون الحياةُ البانية. وكان أستاذًا في احترام الأصول المرعيّة، والتقاليد المجتمعيّة، حريصًا على الوفاء بها، وغرسها في أولاده ومن حوله، بارًّا وواصلًا، ومتفقّدًا وزائرًا، ومعطيًا كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ومُنزِلًا كلَّ ذي قدْرٍ قدْرَه، مقدِّرًا كل نجاح وصاحبَه، مصرِّحًا بالتقدير، وفيًّا بالتوقير، شمل الفتى التلميذَ مرّات عديدة بفيض من تشجيعه، ونسمات من تحفيزه. عُرف بهدوء ورزانة وقلّة كلام، أورثه ذلك في نفوس مَن حوله الهيبة والاحترام، وأقام له في مجتمعه مكانة ووجاهة، وجعله موردًا عذبًا يرده النّاهلون، ويعِلّ منه الواردون، جمع معه ترحيبًا وكرمًا، وبابًا على الدوام مفتوحًا، تفتّحت عينا الفتى وهو يرى مجلسه عامرًا، وجليسه مؤنَسًا، وتعلّم ممّا أدركه في تلك المجالس ما شاء الله له أنْ يتعلّم. ومع كثرة خُلطته بالناس، وحرصه على جميل الصِّلات، فقد كان كارهًا للقيل والقال، مُعرِضًا عن الخوض في الأشخاص والأعراض، كان الفتى الصغير يتعمّد النظر إلى معالم وجهه إذا قيل ما لا يحسن ولا يحبّ فيجد فيه امتعاضًا وتغيُّرًا، ونُفرة وتغيُّظًا، ولزومًا للصَّمت، كأنه يلوذ به، ويجعله نذيرًا لمن حوله، وداعيًا لتغيير مسار الحديث. رأى صاحبنا في أستاذه العتيق رأيَ العين ما ترسّخ على امتداد العمر والسنين؛ من حرص شديد على تحرّي الحلال في معاملاته وتعاملاته، وعاصر منه مواقف عديدة يتنازل فيها اتقاءً لشبهة محتملة، أو تقديمًا لمصلحة واردة، مفضِّلًا أنْ يكون الحقّ له على أنْ يكون عليه، وهذا من أعظم الدروس في مدرسة الحياة. وعلّم الأستاذ تلميذَه المحبّ أنّ صدق النوايا سبيل الفلاح والنجاح، وأنّ “النيّة مَطيّة”، وخير المطايا ما صلح من النوايا، ورأى صاحبنا صدق ذلك في سعة وبركة تنعّم فيها الأستاذ وتقلّب، استبقاها ببسط يد في البذل والإنفاق في وجوه الخير والبرّ، وما أخفاه أعظم ممّا أظهره؛ فقد كان حفيًّا خفيًّا. واقترب صاحبنا من أستاذه العتيق وقد هرِم الأستاذ وشبّ الفتى، فأدرك منه في عقديه الأخيرين زهدًا وورعًا فاضا رقّة وانكسارًا؛ فرآه في مواقف عديدة يغالب دموعه، ويستر عيونه، وينتهز فرصَ زيارة ابنه وتلميذه فيستدعي من الأسئلة ما يطمئن به على مساره، وما يذكّره بمآله، وصار متأمِّلًا أسيفًا، يبدي شوقَه إلى لقاء ربّه، وزهدَه في حياته، واستطالتَه عيش الدنيا، ورغبتَه في عيش الآخرة؛ مستصحبًا خوفًا ورجاءً، وسؤالًا ودعاءً. هكذا صار الجدّ علي الحبيب أستاذًا للفتى عتيقًا، وهكذا صار في ذاكرة صاحبنا عليًّا على الدوام، حبيبًا له في القلب منزلة ومقام.