نجم الشمال.
إن الاتساع يحجب الرؤية تمامًا، كالسماء فنحن نراها ولكن لا نستطيع التمعن في نجومها إذا طمست، ولا نشعر بها إذا انتثرت. ونحن في زمن تعددت فيه المصادر والاتجاهات، وزاد فيه عدد العلوم، واتسعت سماؤنا وضجت بصخب معلوماتي عارم لا يبقي ولا يذر، فقد سمحت منصّات التواصل الاجتماعي للجميع باتخاذها منبرًا لعرض أفكارهم وآرائهم، وامتلأت المكتبات بزخم من الكتب، إضافة إلى المدونات وقصصها الماتعة، وتناوب العديد من الشخصيات على كنبة “البودكاست”، وتربّعت محركات البحث على عرش المصادر، كل تلك الاتجاهات وضعتنا في مرمى الضربات الساخنة، فأصبحنا نهيم في متاهاتٍ من الرغبة، والحاجة، والأفضل، والأنسب والأكثر...إلخ. لا نستطيع أن ننكر فضل تعدد المصادر في توسيع آفاق المعرفة، ومساعدتنا في اكتشاف مجالات جديدة، وسهولة الوصل إليها، ودورها في ملء الفراغ، وتطوير العلاقات الإنسانية، وتوفير الكثير من الوقت والجهد، ولكن تنوعها أتاح لنا تذوق قطرات منها وليس الغوص فيها، وسهّل لنا معرفة ما يدور حولنا وليس ما يدور فينا.. إذن، متى سننزع المرساة ونبحر.. وأين سترسو سفينتنا؟ إن من سلبيات تعدد المصادر صعوبة اتخاذ القرار؛ فكثرة الخيارات تحيد بنا عن التركيز على هدف معين، مما يؤدي إلى الشعور بالحيرة، وتعدد الاتجاهات يجعلنا نخلط بين الأولويات والرغبات، فمثلًا الترويج المكثف لعلم ما أو تخصص؛ قد يدفعنا لتغيير رغباتنا تماشيا مع الوضع السائد بدلًا من رغبتنا الحقيقية. ومن الضرورة الإشارة إلى أن المصادر غير الموثوقة قد تقودنا إلى تحديد رغبات خاطئة، ونظل نسعى في خرائط يعاد رسم حدودها وتشكيل يابستها لأننا نجيد السماع لكل شيء عدا أنفسنا، وننظر إلى كل شيء عدا نجم الشمال فينا. يجب أن ندرك أن السماء زُيّنت بالعديد من النجوم، ولكنّ ثمة نجمًا واحدًا يقودنا في ظلمة البحر والبر، فمن الأجدر أن يقودنا نحن أيضًا نجمنا الشمالي!، وأن نهتدي به إلى الرغبة والحاجات؛ لأن ذلك النجم يعلمنا “فن التحديد”؛ تحديد الهدف، وتحديد الوقت، وتحديد الوجهة، وتحديد النهاية.. يعلمنا متى نرفع الصارية، وكيف نبحر في بحر لجي دون أن نغفل عن ذلك البريق؛ لأنه البوصلة الشخصية لما نريد. إن تعدد المصادر والاتجاهات سلاح ذو حدين، فهو يفتح لك آفاقًا جديدة، ولكنه قد يؤدي إلى ضياع البوصلة الشخصية، فالتوزان والتمسك بأهدافنا هو المفتاح لتحقيق النجاح والرضا.