كتاب للدكتور زيد بن علي الفضيل من السعودية، تتجلى في الاحترافية في التحليل السياسي وفهم التاريخ، المؤلف هو رئيس القسم الثقافي بمركز الخليج للدراسات في جدة. وقد جاء الكتاب في وقته تماما، ورغم أن عددا من المقالات قد تم نشرها في الصحف إلا أن تجميعها تحت هذا العنوان أعطاها بعدا مرجعيا مهما، غلاف الكتاب كثيف التعبير عن حال فلسطين اليوم، وقد لفت نظري في إحدى زواياه عبارة “الكتاب الذي لا يسافر لا يًعَول عليه “، وهذا الكتاب جدير بأن يسافر بين الأقطار واللغات، ولو ظهر بالإنجليزية فإنه سيزود قارئه بجرعة كثيفة التركيز تصلح مرجعا للقارئ غير المتخصص عن القضية الفلسطينية. لفت نظري العنوان الجانبي “جرح مفتوح في قلب عربي” ، فقد نكّر كلمة عربي، ولذا نحن نفهم أن الكاتب يقصد نفسه التى فاضت ألما بجرح أمته العربية، لكن - وأتمنى ألا أكون مخطئا - فإن التنكير يحتمل التعداد، وقد تفادى المؤلف أن يسبقها بكل، فتصبح (كل عربي) إذ أصبح بيننا من يتبرأ من هذه القضية، وهذه مسألة يأسف لها المؤلف، ويحلل أسبابها، فقد تراجعت فلسطين من كونها قضية إسلامية عربية إلى أن تصبح قضية قطرية فلسطينية، ولكنها تبقى قضية كل عربي وكل مسلم وكل مسيحي يعيش معنا، والأحداث الأخيرة حيث الإبادة الجماعية، وحيث المقاومة الضارية، حولتها إلى قضية إنسانية، إذ أوصلت وسائل الإتصالات الحديثة الصورة التي لعبت دورا كبيرا في عرض الحقائق بطريقة عابرة للغات والقوميات، مما حرك الناس في كافة أنحاء العالم ليكتشفوا ما أفلح الصهاينة في إخفائه، وما نجحوا في تزويره وتسويقه، بل إن أمريكا التي كانت حلما عالميا للبشر ينظرون إليه بإعجاب تتحول بسياسييها إلى دولة كريهة عند كل الواعين في العالم، إذ أنها بموافقتها ودعمها للإبادة قد دمرت الصورة التى كانت تروجها لنفسها، عسكريا قتل الصهاينة عشرات الآلاف و دمروا مجتمعا يعيش فيه مليونا إنسان، حُرموا من العدالة والشعور بالأمان منذ ثمانية عقود، ولكن ذلك لم يحقق لمجتمع الصهاينة الأمن الذي يدعون، وباتوا خطرا على العالم، وأصبح نفوذهم في المجتمع الأمريكي خطيرا ومضرا، لدرجة تصديق ما سبق أن قاله الرئيس بنجامين فرانكلين محذرا بني جلدته: “احذروا أيها السادة، إنكم إذا لم تبعدوا اليهود إلى الأبد، فإن أطفالكم وأحفادكم سيلعنونكم في قبوركم، إن مبادئهم ليست مثل المبادئ الأمريكية، حتى ولو عاشوا بيننا عشرة أجيال، إن النمر لا يستطيع تغيير البقع التي على جلده”. يقول الكاتب إن الصهاينة سيواجهون مصيرا بائسا إن لم يكن اليوم فغدا، ولقد فاتهم أن المبادرة العربية وحل الدولتين اللتين كانت السياسة السعودية من خلفهما قدمت لهم طوق النجاة، ولكن العقلية اليهودية التى يقوم عليها تفكير الأكثرية منهم هى عقلية مدمرة، ونحن في المنطقة العربية قد دفعنا ثمنا باهظا لها، ولا زلنا نرى كل عيوب عقلية الأخدود في نجران - التى تشبه الإبادة العرقية التي يتعرض لها الفلسطينيون اليوم - التى ستبقى لعنةً تطاردهم، كان أحرى بهم أن يفهموا مزايا مبادرة السلام العربية، التي رفضت السعودية أمس واليوم وغدا أن تسمح دون تطبيقها بأي قدر من التطبيع مهما جرت مياه التطبيع من حولها. وهو موقف أصيل منذ الملك المؤسس. بل إن موقف السعودية من عضوية مجلس الأمن يندرج في سياق موقفها من فلسطين، فمجلس الأمن الذي لم يشوه صورته في كل الدنيا إلا حق الفيتو الذي صدر مئات المرات لصالح العربدة الصهيونية، ولذا نزهت السعودية نفسها عن المشاركة فيه، المشاركة التي يتوق لها كل العالم، رفضته السعودية لعجزه ، إن عجز مجلس الأمن سيتيح للمتطرفين أن يتسيدوا المشهد العالمي، لم يتعلم الكبار الدرس من عصبة الأمم المتحدة التي كانت مثالا للفشل، فقد أتاحت للمنتصرين في الحرب العالمية الأولى ما لا يستحقون من النفوذ فخرج أمثال موسوليني وهتلر لتكون الحرب الكونية الثانية، ومسيرة مجلس الأمن اليوم قد تقود البشرية إلى نفس المصير، وكل ذلك بسبب الدولة الصهيونية. يشير الكاتب إلى مقالة عن يهود اليمن نشرها في مجلة الفيصل ذكر فيها أن المجتمع اليمني كفل لهم كل الحقوق عبر التاريخ وكان لهم حصانة ضد القتل والاعتداء في العرف القبلي، كانوا يتزاوجون مع المسلمين لأنهم يعامَلون كأهل كتاب، وقد اختاروا أن يعيشوا في حارات خاصة بهم ليحموا أنفسهم من التلاشي في المجتمع الكبير، وهذا يختلف بالطبع عن نشأة الجيتوهات اليهودية في الغرب، فتلك كانت نوعا من العزل الاجتماعي مارسه المجتمع الذي يعيشون فيه، عندما رغب يهود اليمن في الهجرة لم يمنعهم أحد فهاجروا في عملية أُسميت “بساط الريح” ، هاجروا إلى أمريكا، ومن ثم إلى الكيان ، وهناك ما زالوا يعاملون بدونية ولا زال هذا وضعهم، وهو حال يهود العالم العربي المغاربة والعراقيين والمصريين الذين هاجروا إلى فلسطين ليواجهوا طبقية شديدة على يد الإشكناز، كانوا لا يعانون من مثلها في المجتمع العربي . وهنا يضع المؤلف اقتراحا ذكيا وهو أن يقيم العرب علاقات مع اليهود العرب الذين يعانون طبقية المجتمع الإسرائيلي، إن العرب من غير اليهود الذين حافظوا على بقائهم في فلسطين فُرضت عليهم الجنسية الاسرائيلية، وهم واليهود العرب يمكن أن يكونوا تجمعا سياسيا مؤثرا في المجتمع الإسرائيلي يقاوم التوجهات الصهيونية. وبدلا من الاستسلام لمحاولة الصهاينة اختراق المجتمعات العربية والمسلمة، تلك التي أحرزوا فيها نجاحات ملحوظة مثلما نراه في أذربيجان، فإننا سنخترق المجتمع الصهيوني بالمقابل. يصحح الكاتب بالبراهين خطأ تحميل طوفان الأقصى جريرة الإبادة العرقية الحاصلة في غزة، بعض الناقدين أخذته الشفقة على الضحايا وهذا يمكن تفهمه، لكن الآخرين يتبنون التزوير الصهيوني ويروجون أكاذيبه، وقد أصبحوا رغم عدم إسرائيليتهم جزءا من معسكر الباطل الصهيوني، إن هؤلاء يتجاهلون أن الإبادة كانت وليدة اليوم الأول للمشروع الصهيوني في فلسطين، لماذا يتناسى هؤلاء رفض اسرائيل لكل مشروعات السلام، لم يترك الصهاينة للفلسطينيين إلا الرحيل عن أرضهم، أو أن يصبحوا عبيدا يعملون في مشروعاتهم أو الإبادة؟ إن طوفان الأقصى هو بداية النهاية للمشروع الصهيوني. يحذر الكاتب من تبني أطروحات متطرفة داعشية تنتسب زورا وبهتانا للإسلام ، منذ دخول الإسلام إلى فلسطين اتفق المسلمون مع المسيحيين أن يحموهم من أذي اليهود وهو ما جعل المجتمع المسيحي في فلسطين جزءا من نسيج المجتمع الفلسطيني، وعندما حدثت حروب الفرنجة التي سميت زورا بالحروب الصليبية كان المجتمع المسيحي الفلسطينى ممن اقتسموا المعاناة مع الفلسطينيين المسلمين، و نالوا الرضا الكامل من القائد صلاح الدين، بل إن اليهود أنفسهم تمتعوا بحقوقهم كاملة في المجتمع الفلسطينى، ويمكن أن نأخذ مثالا طائفة السامريين التى تعيش في نابلس والتي ترفض المشروع الصهيوني جملة و تفصيلا، ولا زالوا يرفضون الاندماج في المجتمع الاسرائيلى ويعيشون مع العرب حتى يومنا هذا، وهو هنا يحذر من التدخلات الصهيونية الخفية التي تريد اشعال الحريق الطائفي حتى تبرر ادعاءاتها عن يهودية الدولة الصهيونية وبرصانة المؤرخ وبراهينه يثبت الكاتب تفاهة الادعاءات التى روج لها بعض العرب مثل كمال صليبي في كتابه “التوراة جاءت من جزيرة العرب” وكذلك فاضل الربيعي في أكثر من كتاب، هؤلاء يدعون أن الجزيرة العربية كانت مهد الرسالة التوراتية، وما هذا إلا تمرير للرواية التوراتية على أنها المروية التاريخية الوحيدة الصحيحة. وهكذا راجت بعض العبارات المزورة مثل التوراة الحجازية وقبيلة قريش الحضرمية، ومن هذه الأقاويل التي يثبت الكاتب أنها مجرد افتراءات، ويسرد علينا الفرية المضحكة التى تقول أن قرية الجعرانة التي تقع على مسافة أميال قليلة من مكة هي مكان المسجد الأقصى، وللأسف فإن كاتبا مثل يوسف زيدان يتبنى هذه السخافة، وكما يقول الكاتب : فلو كان المسجد الأقصى في الجعرانة فلماذا كذبت قريش حادثة الإسراء؟، هنا يوضح الكاتب علاقة اليهود بتزوير المسيحية بأن تمكنت من دمج مشروعها الإقصائي الانعزالي التدميري في عمق الثقافة البروتستانتية المسيحية، التي جعلت الإيمان بالعهد القديم مقدمة للإيمان بالعهد الجديد وصولا إلى قناعة أنجليكانية. يتبنى المشروع الصهيوني الذي أصبح نجاحه لبنة في المشروع الدينى لبعض المسيحيين الغربيين، ولا يستغرب المؤلف أن يكون هناك تخطيط صهيوني بترويج هذه الأوهام لتزوير المعتقدات الدينية الإسلامية كما حدث مع الطوائف المسيحية الغربية. وهنا يستعرض الكاتب دور ما أسماه حاويات الفكر ومراكز الرأي الصهيونية التى تعمل لتصنع معرفة تخدم توجهاتها في استلاب الآخرين، ولا يستبعد أن تكون هذه الافتراءات هي من تسريبات هذه المراكز ، في إسرائيل مراكز متخصصة للبحث التاريخي، ومنها “ معهد بن تسفي للدراسات اليهودية “ ، وهو معهد يهدف إلى صبغ الهوية اليهودية على فلسطين، و” معهد موشى ديان للدراسات الأفريقية ودراسات الشرق الأوسط” ، وكذلك “ أكاديمية العلوم التاريخية بجامعة تل أبيب “ التى تدرس المعارك الإسلامية و فقه الجهاد، و معهد “ الدراسات الشرقية “ بالقدس، الذي جمع سجلا ضخما من الشعر العربي القديم وأنشأ معجما عربيا عبريا. كما رصد اللهجات الفلسطينية العامية، ويعمل على ترجمة القرآن للعبرية ، وكتابة سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كذلك قدم المعهد العديد من الرسائل عن موضوعات مثل “ شاخص مقام إبراهيم “ و “ الإعجاز في القرآن” و “فريضة الحج “ و “ أركان الإسلام” وغيرها ، ولا يملك القارئ إلا أن يشارك الكاتب اهتمامه بأن نواجه هذا العمل الصهيونى بعمل معرفي تاريخي يتصدى لما سينشأ من تزوير يغزو عقولنا مثلما حدث في الكتب التى أشرنا إليها، وهنا يلقى المؤلف ملاحظة قاتلة فيقول لو كان ما يقال عن التوراة الحجازية صحيحا فلماذا قبل اليهود الذين جاؤوا إلى الجزيرة العربية بعد السبي البابلي الثاني منذ ١٦٠٠ سنة أن يتركوا أرض ديانتهم إلى أرض لا علاقة لهم بها في فلسطين؟ ولعلنى أضيف هنا أن هذه الأرض المباركة والدولة السعودية مستهدفة على المدى الطويل بهذه الافتراءات. ولا شك أن جهود مؤرخين مثل الدكتور زيد وزملائه في مراكز البحوث في السعودية والدول العربية كفيلة بإحباط هذه المؤامرآت في مهدها. إن هذا المؤلَف وصية رائد لأهله وذوي قرباه. والرائد لا يني ينصح ويوجه ويبني.