« القلافة » .. قصة كفاح إزدهرت على سواحل المملكة ..
عام الحرف اليدوية يعيد «القوارب الخشبية» إلى الواجهة .
في أعماق التاريخ البحري للخليج العربي، تلمع حرفة القلافة (صناعة القوارب الخشبية التقليدية) بوصفها واحدة من أعرق الصناعات اليدوية التي نسجت العلاقة بين الإنسان والبحر، وشكّلت ملامح الحياة الاقتصادية والاجتماعية على سواحل المملكة، لم تكن صناعة السفن مجرد مهنة، بل كانت مشروع بقاء، ورمزًا للمجد، وفنًا يتناقل أسراره القلاليف جيلًا بعد جيل، وهم الذين صنعوا بأيديهم أشرعة حملت التجّار والغواصين والحجاج عبر المدى. واليوم، في ظلّ الاحتفاء بعام الحرف اليدوية 2025، تعود القلافة إلى الواجهة، لا كتراث فحسب، بل كقصة وطنية تُروى على صفحة البحر. جذور القلافة القديمة في زوايا الخليج العربي وسواحله الدافئة، وُلِدَت حرفة القلافة، مهنة الآباء والأجداد الذين شيدوا بأيديهم أشرعة خاضت البحار، وسفنًا حملت التجارة والغوص والذكريات. كانت القلافة أكثر من مجرد صناعة خشبية؛ كانت فنًا متكاملاً يحمل في طياته أسرار البحّارة، ونداءات اللؤلؤ، وحكايات المجد. وقد اشتُق اسم المهنة من “قَلَفَ”، أي قشر أو جرد، وهي دلالة على إزالة لحاء الأشجار، ما يعكس علاقة القلاف بالخشب في حالته الطبيعية، وكان القلاف يتعامل مع الخشب بحدسه، فيختار الأنواع المناسبة، ويحدد طريقة تقطيعه وصقله، ليصنع منه سفنًا صلبة تقاوم الملوحة والتيارات البحرية. برزت القلافة في مدن سعودية مثل القطيف، وجازان، وينبع، والجبيل، ودارين، حيث كانت الورش البحرية لا تهدأ، والمطارق تدق على أنغام البحر. وكانت مهنة القلافة تورَّث جيلًا بعد جيل، يبدأ الصبيان من عمر العاشرة في تعلمها، يساعدون في تحريك الأخشاب، ويشاركون في خياطة الأشرعة، وقد شكّلت القلافة أحد أركان الاقتصاد البحري في المملكة منذ زمنٍ بعيد، وأسهمت في ربط سواحلها ببقية العالم، وساعدت على تنقل الحجاج والتجار والغواصين، حتى باتت السفينة رمزًا للرزق، والرحلة، والعودة. مراحل البناء الخشبي تبدأ صناعة السفينة باختيار نوع الخشب. في المملكة، يعتمد الحرفيون على أخشاب السدر والأثل، إضافة إلى خشب الساج المستورد من الهند، لما يتميز به من صلابة ومقاومة للتآكل، ويبدأ القلاف بصناعة قاعدة السفينة، المعروفة بـ “البيص”، وهي مرحلة دقيقة تمثل الهيكل الأساسي. يُثبت القلاف الأضلاع الخشبية على القاعدة، ثم يُركّب الألواح الجانبية بدقة متناهية. بين كل لوح وآخر، تُوضع خيوط الكتان المغطاة بالشونة أو زيت السمك، لسد الفجوات ومنع تسرّب الماء. بعد مرحلة “البيص”، تبدأ عملية بناء الهيكل الخارجي للسفينة، ويُعرف باسم “الدمنة”، وهي المرحلة التي تمنح السفينة ملامحها النهائية، بدءًا من تركيب الألواح المنحنية حول القاعدة، مرورًا بتثبيت الدفة والمؤخرة، وانتهاءً بوضع الصاري، وهو العمود الخشبي الطويل الذي يُثبت في قلب السفينة ليدعم الأشرعة. وتُخاط الأشرعة يدويًا باستخدام أقمشة قوية مقاومة للرياح والرطوبة، ويُراعى فيها الوزن والخفة والتوازن. تُقوّى الحواف بخيوط سميكة تُجدل من ألياف النخيل أو القطن، وهي عملية تتطلب مهارة دقيقة من “مفصّل الشرعة”، وهو الحرفي المختص بتصميم الأشرعة وفق مقاييس السفينة ووجهة الإبحار. وخلال مراحل التركيب، لا يُعتمد على النظر فحسب، بل يُستخدم أيضًا “الاختبار السمعي”، حيث يستدل القلاف على جودة التثبيت من صوت المطرقة عند الطرق على الخشب، فإذا جاء الصوت مكتومًا، دلّ على التثبيت المتقن، أما إذا جاء مجوفًا، فذلك يشير إلى خلل يتطلب إعادة الضبط. ويمتد زمن صناعة السفينة بحسب حجمها ونوعها؛ فالسفن الصغيرة تُنجز عادة خلال ثلاثة إلى خمسة أشهر، بينما تحتاج السفن الكبيرة، ذات الأدوار المتعددة والمخصصة للغوص أو الترحال البعيد، إلى مدة قد تصل إلى عام كامل من العمل المتواصل والمهارة المتقنة. أدوات البحر الصامتة يمتلك القلاف صندوقًا خشبيًا يضم أدواته، التي تُعد امتدادًا ليديه وعينيه. من بينها: المنشار والفأس والإزميل؛ لتقطيع الخشب ونحته. إلى جانب الشاكوش والمسامير النحاسية؛ لتثبيت الألواح، والكر والمنقار؛ لحفر الثقوب الدقيقة، وهنالك أيضا الإبرة الكبيرة: لخياطة الأشرعة يدويًا. كما يُستخدم القطران (الصل) لعزل السفينة عن الماء، وتُغطى بعض الأجزاء بخيوط القطن المشبعة بالزيوت. وتُستخدم الحبال لتقوية الزوايا ودعم الأشرعة، وكانت جميع هذه الأدوات تصنع محليًا، أو تُجلب من الهند وفق مواصفات خاصة. ويكمن سر نجاح القلاف في إتقانه لاستخدام هذه الأدوات يدويًا دون أجهزة أو خرائط، بل وفق عين خبيرة وخبرة موروثة. أنواع السفن التقليدية تنوّعت السفن والقوارب التقليدية حسب الغرض من الاستخدام، ومن أبرزها: البوم وهي أكبر السفن حجمًا، مخصص للسفر والتجارة، وهناك الجالبوت متعدد الأغراض، ويُستخدم للصيد والغوص والنقل، وهناك أيضا البغلة: ضخمة الحجم، مخصصة للتجارة بين الدول، إلى جانب السنبوك وهو قارب مثالي لرحلات الغوص واستخراج اللؤلؤ، بجسمه الطويل المنحني، أما الهوري فهو صغير الحجم، يُستخدم للصيد الساحلي والتنقل بين الجزر. وكانت هذه السفن تميزها هندسة فريدة، تُبنى يدويًا بالكامل، دون مخططات، وتخضع لمعايير دقيقة في الميل والانحناء. وكانت تُزيَّن برسومات خشبية وزخارف، وتُزفّ إلى البحر في طقوس احتفالية خاصة. القلافة في الحاضر رغم ما شهدته من تراجع في منتصف القرن العشرين بسبب انتشار الألياف الزجاجية “الفيبرجلاس”، إلا أن حرفة القلافة لا تزال حاضرة. ففي مهرجانات مثل “الساحل الشرقي” في الدمام و”الجنادرية”، يلتف الناس حول الحرفيين يشاهدونهم وهم يعيدون رسم ملامح البحر بالخشب. وقد سعت هيئة التراث ووزارة الثقافة إلى إحياء الحرفة من خلال الدعم التدريبي والمادي، لا سيما بعد إعلان 2025 عامًا للحرف اليدوية في المملكة، مما فتح الباب أمام الأجيال الجديدة لتعلّم المهنة. كما ازدهرت مؤخرًا صناعة مجسمات السفن التي باتت تُستخدم في الديكور والمناسبات التراثية، وتحولت إلى تحف فنية تعكس عبق البحر في بيوت الناس ومعارض المتاحف. ولم تخلُ القلافة من التحديث؛ فبعض الحرفيين بدأوا باستخدام أدوات كهربائية، لكن مع الحفاظ على جوهر الحرفة اليدوي. وظهرت ورش تعليمية موجهة للأطفال والشباب، لتوريثهم هذه المهارة، كجزء من الهوية الوطنية والثقافة البحرية. رمزية السفينة والقلافة لم تكن السفينة مجرد وسيلة نقل، بل مجازًا شعبيًا عميقًا يعبر عن الترحال، والنجاة، والانتماء. ففي داخل كل سفينة، قصة من صنع الإنسان والبحر معًا، ومشروع للرزق والأمل. وبالتالي فإن القلافة ليست مهنة فقط، بل ذاكرة جماعية. هي احتفاء بالحرفة، بالصبر، بالعين التي ترى، وباليد التي تصنع. هي تجسيد لقيم الانضباط والدقة والاعتزاز بالتراث. وفي وقت تتسابق فيه الأمم على حفظ تراثها، تبرز القلافة كقصة تستحق التدوين والعرض، لا بوصفها ماضٍ جميل، بل كنموذج للتراث الحي الذي ما زال يتحرك في المهرجانات، والمتاحف، وعلى أرفف المحلات التي تبيع المجسمات. إن القلافة ليست مجرد ذكرى، بل هي هوية متجذّرة في شطآن المملكة، تحكي كيف واجه الإنسان البحر بعزيمة، وكيف صنع من الخشب أشرعة مجد. فالسفينة ليست فقط ما يُبحر، بل ما يُخلّد، وما يعيد للثقافة السعودية صوت الموج وعبق الملح ودفء الخشب