مستورة الأحمدي.. سيرة من ضوء ومعنى.

حين أسترجع وجوه النور في حياتي، تبرز أمامي عمّتي مستورة الأحمدي، المعلمة والشاعرة التي اجتمعت فيها الطيبة والكرم والوفاء، وامتزج فيها العلم بالشعر، والعقل بالعاطفة. لم تكن فقط معلمة لغة عربية تزرع حب الكلمة في قلوب طالباتها، بل كانت شاعرة ملهمة أضاءت سماء الأدب وشاركت في برنامج شاعر المليون، فرفعت راية المرأة السعودية والعربية بكل فخر وجمال. وُلدت مستورة بن ضويعن الأحمدي في المدينة المنورة عام 1976م، وعاشت عمرها القصير المليء بالعطاء، حتى وافتها المنية عام 2011م وهي في أوج عطائها الأدبي والتعليمي. كانت معلمةً للغة العربية، ترى في اللغة رسالة وليست مادة، وفي الكلمة أمانة وليست حروفًا. علّمت طالباتها أن اللغة ليست فقط نحوًا وصرفًا، بل شعور وهوية وانتماء. شاركت في برنامج شاعر المليون، فسطعت نجمةً بين الشعراء، بصوتها الهادئ وأسلوبها العميق، وقصائدها التي تجمع بين القوة والأنوثة. كانت قريبة من القلوب، صادقة في حرفها، جريئة في طرحها، وفي قصائدها يتجلى إحساسها النقي وعمقها الإنساني. ومن أجمل ما كتبت: الدرب واحد، والأماني عديده متزاحمة على سجّل المواعيدْ وأوّل طريق المجد رغبة عنيده يقسى عليها الوقت، وتزيد وتزيد وفي قولها الآخر: أمشي على وضح النقا، مشي سلطان مثل الجبل ما يخفّضه دوس ظلّه كلماتها تُظهر روحًا صلبةً ناعمة، تعرف طريقها وتؤمن بنفسها، وتعلّمنا أن القوة الحقيقية أن تبقى شامخًا رغم التعب، صادقًا رغم الألم. وللوطن كم كتبت وتغنت هذا الوطن كان قصيدتها الأغلى   ياموطنَ النـورِ يافخـرا لمـن كتبـا يامن  نباهـي بـه التاريـخَ والأدبـا وسخَّر الله للأرض التـي انطلقـت منها  الرسالة من كانوا لها سُحُبا آل السـعـودِ رعــاة الـحـقِ قـادتـها  بالله  سـادوا فسبحـان الـذي وَهَبَـا وقصيدتها في ابنها أديب كانت تجسد مشاعر الأمهات جميعا  الأم دهشة إن تكلمت فقط فكيف إن استطاعت أن تمنحها اللغة مفردات تعبر بها تتحدث لاشيء أصدق من حديث الأمهات: توأم الفجر يا وجه الحياة الرغيد من هو اللي سبق منكم وصبّح عليّ ؟ إيه يا طفل لبّس دنيتي ثوب عيد فاز في عرض زينتها على كل زي كانت مثالًا للكرم والوفاء، لا تبخل بعلمها ولا بعاطفتها، وتعيش بقلب مليء بالمحبة للناس. كانت تؤمن أن اللغة العربية رسالة تُهذّب الذوق وتُنعش الروح، وأن المعلم هو صانع الحياة بالكلمة الطيبة والفكرة الراقية وعلاقتها مع إخوتها مدرسة في المحبة والثقة والاعتزاز بقيمة الأخوة مراسلاتها مع والدي لازلت أعود إلى مراسلاتها مع والدي، وما أجمل وأبهى وأصدق تلك الرسائل أثرها الإنساني والمهني كانت في حياتها اليومية رمزًا للكرم والطيبة. بيتها مفتوح، ووجهها بشوش، ولسانها لا يذكر إلا الخير. كانت تحمل قلبًا كبيرًا يسع الجميع، من طالباتها إلى زميلاتها وأهلها وأصدقائها.ومن مواقفها التي تُروى عنها، أنها كانت تُساعد طالباتها في كتابة القصائد، وتشجع الموهوبات منهن على المشاركة في المسابقات، تقول لهن دائمًا: “اكتبي كما تشعرين، لا كما يُراد منك أن تقولي.” هذا الإيمان بحرية الكلمة جعلها محبوبة بين طالباتها، وترك أثرًا طيبًا في نفوس كل من عرفها. رحلت عام 2011م بعد صراعٍ قصيرٍ مع المرض، لكنها لم ترحل من القلوب. تركت إرثًا من الشعر النقي والمواقف الجميلة، وتركت سيرةً يليق بها الدعاء والذكر الطيب  وكلما وقفت أمام طالباتي لأشرح درسًا في البلاغة أو النحو، أتذكرها، وأشعر أني أكمل رسالتها. هي التي غرست فيّ حب اللغة، وجعلتني أؤمن أن التعليم ليس وظيفة، بل رسالة سامية. كانت تقول لي دائمًا: “اللغة العربية بقدر المحبة لها تفتح لك نوافذ دهشتها الحب وحده يصنع المعجزات في تعلمها وتعليمها” واليوم أردد كلماتها تلك، وأعلم أن حب العربية هو حبٌ للحياة، وللهوية، وللإبداع. أشعر بالفخر أني أسير على خُطاها، وأنني أُعلّم كما علّمت، وأحاول أن أترك أثرًا كما تركت رحم الله مستورة الأحمدي، وأسكنها فسيح جناته. اللهم اجعل ما كتبت من حروفٍ وشعرٍ شاهدةً لها لا عليها، واجعل تعليمها صدقةً جارية، تنير قبرها كما أنارت عقول طالباتها. اللهم اجعلها من أهل الفردوس الأعلى، واجمعنا بها في دارٍ لا يفترق فيها الأحباب. ستبقى سيرتها النقية نبراسًا لي، وشعرها شاهدًا على أن الكلمة قد تصنع الخلود، وأن المعلم الحق هو الذي يعيش في القلوب حتى بعد رحيله. *إدارة تعليم المدينة