أحمد الملا.. ذاك الذي يفيض شعراً

أن تكتب عن أحمد الملا، الشاعر والسينمائي والإنسان، يعني أن تغمض عينيك، وتستدعيه من مكانه البعيد- القريب، بالأحرى أن تنتزعه من حيّزه الآمن ليسعفك بفكرة أو صورة تنطلق منها لتتحدث عن صاحبها، وصاحبها يتمتّع بأكثر من موهبة لافتة، وبحضور حلو، وبظرف وحسّ دعابة عالٍ. - ما الذي تريده مني؟ - أن أكتب عنك.. - اكتب.. - لا أعرف من أين أبدأ. - من حيث تشاء. سأنطلق من قناعتي بأن أحمد الملا يفيض شعراً.. ليس من نصوصه الأدبية فحسب، بل أيضاً من سلوكه الذي لا غرور فيه ولا غطرسة، من خطابه الذي لا مبالغة فيه ولا مراوغة، من عواطفه ومشاعره التي لا رياء فيها ولا افتعال، من لباقته ولياقته، ومن انشغالاته وأنشطته السينمائية أيضاً. تذهب إلى كتبه. أول ما يصادفك، وربما يباغتك، تلك العناوين المدهشة (كيف يبتكرها؟ هذا لغز. سرّ لا يفشيه لنا). يُقال أن العناوين عتبات. تأخذك وتدخلك على مهل في المتن. ربما. لكن في حالة أحمد، يحلو لي أن أتخيّل العنوان خاطفاً ينتشلك عنوةً ويرميك في فرن النص. على نحو مفاجئ. أبالغ؟ ربما قليلاً. لكن انظر كيف يستلّ حرف السين من غمد الأبجدية، ببأس شاعر يتباهى بغموضه، ويشكّ الحرف، ببراعة حائك، في جملة تدهشنا جمالياً ودلالياً: سهم يهمس باسمي. وكيف يشبّه الشيء المجهول الغامض بالنسيان، ويصف النسيان بالخفّة والميلان في: خفيف ومائل كالنسيان. وكيف يلهو بقوانين الفيزياء ويتلاعب بالطبيعة في: الهواء طويل وقصيرة هي الأرض. واعتقد، يكفيه ابتكاره لهذه الشذرات، بلا نص، بلا متن ولا هامش، لندرك حضور الشاعر في صورته البهيّة. مع ذلك، في نصوصه تجد تلك الصور التي لا تستطيع أن تتجاوزها، فهي التي تستوقفك رغماً عنك لتتمعّن فيها، لتتأملها، لتتفاعل معها، لتكتشف أبعادها. ولتتيقّن من أنها تحمل معان ربما لم تكن من مقاصد الشاعر المباشرة. وعندما انتقل أحمد الملا إلى عالم السينما، كان يدرك تماماً أن عليه أن يؤسس الأرضية، البنية، النطاق الجاذب أو البؤرة الجاذبة التي تستقطب شتى المواهب الخفيّة والمجهولة آنذاك. لم يحمل الكاميرا وإن ساهم مع بعض الشباب في تجارب سينمائية متفرقة، بل وظهر ممثلاً في فيلم قصير (والحق أني تمنيت سراً ألا يعيد تجربة التمثيل، وهو استجاب لهذه الأمنية دون أن يسمعها مني). فطن الملا وأصحابه إلى أهمية المهرجان السينمائي وضرورته في استقطاب أولئك الشباب الذين كانوا يحلمون بصنع الأفلام وعرضها. شباب نشأوا في مناخ يمكن القول عنه أنه غير سينمائي. لا شركات إنتاج، لا صالات، لا دعم، ولا تجمعات. محاولات سينمائية متفرقة في مختلف بقاع السعودية. وجاء المهرجان- البؤرة لتجذب نحوها كل المحاولات الشابة. في العام 2008، كنت في القاهرة، مشاركاً في مؤتمرٍ للرواية، عندما تلقيت اتصالاً من أحمد الملا يطلب مني المشاركة ضمن لجنة تحكيم أول مهرجان سينمائي في السعودية. قلت نعم، يشرفني ذلك. بعد انتهاء الاتصال مباشرة قلت لنفسي: مهرجان سينمائي؟ في السعودية؟ ما الذي يفكر فيه هذا الحالم؟ ذهبت معتقداً بأنني سوف أقيّم ثمانية أفلام لا أكثر. غير أني فوجئت بأن المشاركات بلغت أكثر من 60 فيلماً. وبقية القصة يعرفها الجميع الآن. ثمة أشخاص تشعر في حضورهم بالغبطة والثقة والطمأنينة. تشعر في حضورهم بأنه ليس عليك التكلّف والمجاملة والتظاهر. تشعر بأنك حرّ، خفيف وحرّ، وفي أمان. ومبتهج كذلك.. هكذا تكون في حضرة أحمد الملا.