يلمس الضوء في الحجارة.

كأنّ اللغة حين أرهقها التكلّف، استراحت في نبرته. في صوته سكينةٌ تُرتّب الفوضى، وفي ضحكته طمأنينةٌ تُبدّد قلق العالم. أحمد المُلّا هو الشِّراع الذي لا ينتظر الريح، بل يصنعها. يمضي كما تمضي القصيدة حين تعرف طريقها إلى المعنى، يحمل الآخرين معه، لا بوصفه دليلًا، بل رفيقًا يرى أبعد من المدى. كلّما اشتدّت عليه العواصف، ازداد قوّة، يتحدّى الريح بجرأةٍ مدروسة، وفي المرافئ لا يرسو، بل يُقيم مؤقّتًا ليعلّم الموجَ فضيلةَ الصبر، وأنّ الوجهةَ اختيارٌ لا قَدَر. قلبه يتّسع للعالم كلّه، يُصغي لما لا يُقال، ويرى النور في العاديّ كأنّ العابر معجزةٌ صغيرة. يوقظ فينا ما غفلنا عنه، وفي حضرته تتطهّر أرواحنا، ونغدو أصدق ممّا كنّا. بموهبةٍ نادرة، يكشف للأصدقاء جوهرهم الخفيّ، كما لو أنّه يلمس الضوء في الحجارة. لا يتركنا كما وجدنا، بل يُعيد ترتيب أرواحنا بهدوءٍ يشبه ترتيب الهواء لستارةٍ في غرفةٍ مهجورة. وحين يضحك، تصفو الحياة وتشفّ. هو الصديق الذي يفهمك بلمحةٍ سريعة، والمحبّ الذي يغفر الخطأ والنسيان. كلّ من مرّ به عاد أخفّ ممّا كان، كأنّ شيئًا من نوره التصق به إلى الأبد. في حضرته، يصبح الوقت شكلًا من أشكال الطمأنينة، وتبدو الحياة أقلّ قسوة، وأكثر احتمالًا. أحمد المُلّا لا يكتب القصيدة، بل يعيشها. إنه جملةٌ شعريّة مكتملة الإيقاع، يمشي بين الناس برهافةٍ تجعل الجمال أمرًا يوميًّا. هو الفكرة حين تكتمل، والحياة حين تُصاغ بلغةٍ تستعيد لياقتها. قلبه معلّقٌ بالبلاد، وحين يسافر، يحملها معه كما يحمل القلب نَبضه، لا يتكلّم باسمها، بل بروحها، فيكون وجهها الأصدق في عيون الآخرين. يصادق المثقفين والفنانين من كلّ بلد، لا ليتبادل المجاملات، بل ليعرّفهم بما لدينا من ضوءٍ وتاريخ، عن الإنسان السعودي حين يكون كريمًا بالمعنى، نبيلًا بالفعل، عن ثقافةٍ تُحبّ الحياة وتؤمن بالسلام، وتملك من الإبداع ما يجعلها جزءًا من المستقبل لا على هامشه. هو ابن هذا الوطن، وصوت الإنسان في أصدق تجلياته. يمدّ الجسور كما يمدّ البحر موجه بين ضفّتين، فيجعل الحكاية السعوديّة أكثر حضورًا في العالم، وأكثر تأثيرًا في القلوب. وحين يغيب، يبقى أثره.. في الضحكات التي تتذكّرها بلا سبب، وفي الضوء الذي لا تعرف من أين يأتي. يبقى كإيقاعٍ خافتٍ في أغنيةٍ تعرفها خلاياك، تتذكّرها بلا جهد، وتدندنها في قلبك حتى بعد أن ينسى العالم كلماتها.