في حضرة الشعر والسينما كان الشعر بيننا فقط.
هذا الشاعر الذي لا تُدركه إلا من كلماته الباذخة. إلا من عذوبته الراقية. إلا من سحره الإنساني الطاغي. عرفته في مرحلة لا أتبيّن تفاصيلها كثيرًا الآن، غير أنها أضفَت إليّ صداقة خفيّة، ظلّت شيفراتها حادّة، بينما تشكّلت على سحطها شاشة سينمائية ضخمة، يسّاقط منها: شعرٌ جامح، وإضاءة ناعمة، وألوان لا تعرفها الطبيعة.. ومشاعر لا ينسجها إلا شعراء بحجم أحمد الملا. إنه الصديق، الذي ما أن تقابله، حتى يزرع فيك الجمال بعفوية الماء، ويحرضّك -بابتسامة العارف- على الاشتغال الذاتّي، ويُنبت فيك حنين غامض، كأنك تشتاق إلى شيءٍ ما، ولكنك سرعان ما تكتشف أن هذا التوق، هو.. إليه! إلى ضحكته التي تُجبرك على حبه. إلى ذاكرته المليئة بالشعراء، والسينمائيين، وملايين الكلمات، والصور اللانهائية. يُغرقك أحمد بصحبته. يُخجلك من نفسك، وتُصبح في حضرته ذاك الطفل الذي ذاق للتو طعم العسل، لأوّل مرّة. أحمد يجعلك قصيدته، وينشغل بك، ومعك، ولك، وإليك، ويَنسج حروفه على جسدك؛ فتُصبح في عينيه شِعرًا، وتغدو مباركًا، وأليفًا، وشفافًا. يتلو عليك حروفه، التي ما أن تمتزج، حتى تتفاجأ أنها تَعنيكَ بالضرورة. تتغلغل، مثل نور مكسور، إلى زجاج ذاكرتك. تُدرك أنّكَ تنتمي لشِعرِه، ولسينمائية المشهد الذي ينسكب عليك؛ فتجد نفسك داخل الكادر، في ثنايا المشهد تمامًا: بين الفاصلة، والنقطة.. والكثير من علامات التعجّب، والسؤال، والمنطق، والفلسفة، والعشق، والرؤى، وتنشغل بالتفاصيل التي يراها، وتسكنه. تُصبح أخيرًا شاعرًا.. مثله. وكانت السينما بيننا.. أيضًا. هو الذي أغوته السينما، ولم تهزمه. أنا هجرتُ الشّعر لأجلها، وناضل أحمد ضدّ الإغراء البصري المُعدي. أنا مرضت، وهو تعافى بترياق الشّعر. أنا ذبتُ في الصالات الداكنة، وهو أشعل الشاشة الفضيّة: ديوان شعري تلو الآخر. دورة مهرجان تلو الأخرى.. هكذا ببساطة، استطاع، بحنكة البصير أن يزاوجهما معًا، وأن يظلّ محافظًا على لياقة الشعر، وأصالته، وعشقه المتجدّد. أحمد أقنع الضوء، وأمسك بالظل، وانحاز للمعنى، بكل ما يحتويه من عريّ، وتمرّد. ألبس الكلمة مقام الفعل، ورفاهية الدهشة. أغرق الشعر في اللقطة، والتقط منها الوجود الإنساني العذب. كتب ضدّ النسيان، وتواطأ مع القلق. خلق اللحظة الأزلية، وتمرّن على إفراز الحرّية بهدوءٍ صرف، في قلب اللغة، وفي صميم الإطار الشامل للطبيعة. ثمة مواجهة مع المألوف، واحتفاء بالشّك، ورفض للنمطية، وابتهاج بالمختلف. ثمة أحمد الملا الذي أيقظ فينا الجمال. إن كانت هنالك شهادة؛ فهي تذهب لنبلِه، وإخلاصه، ولخوضه معارك شرسة بأسلحة باذخة في البراءة: قلم، وحبر، وشريط فيديو، والكثير من الصبر، والجَلَد، ونكران الذات. أشعل أحمد فتيل السينما، وظلّ مدافعًا عن شخوصها. أورق الشّعر، وظل يُسقيها بماء القلب. إن كانت هناك شهادة؛ فهي تذهب لإنسان محبّ، وشاعر فخم، ومثقّف صلب، فجّر رؤاه الأصيلة، ورفد الساحة بالشعراء، والسينمائيين، والكتب، والدواوين، والمحاضرات، والمؤتمرات، والمحافل، والورش، والمسابقات، والدروس، والندوات.. وأخيرًا بجمعية تشمل الفنون كلها.. حقّق أحمد المعادلة الصعبة: بنى بيتًا للثقافة، ثم جلس مثل متفرّج وحيد في الصالة، ينظر إلى عشاقه الذين يمزجون القهوة بالشّعر، والسكّر بالسينما.. هنا في بيته، وبيت المبدعين، وبيتنا؛ حيث أصبحنا روّاده المخلصين، وظلّ هو.. يتلو الشّعر بصمت.