حين قرأتُ كتاب “عين تراقب العصفور” للدكتورة ملاك الجهني، الصادر عن دار أدب للنشر والتوزيع، في طبعته الأولى (1445هـ - 2023م)، قلتُ في نفسي: كم حاولنا أنْ نحتالَ على أحزاننا، وأنْ نراوغَها ونتناساها؟!وكم سَعَيْنا في تكبيلِها والقذف بها في غَيَابَةِ لا وعينا؟!بيْدَ أنَّ الأحزانَ تستحيلُ - في أحايينَ كثيرةٍ - سِباعًا ضاريةً وحيواناتٍ مفترسةً لا تفتأ تتربَّصُ بنا ثم تُهاجمنا على حين غفلةٍ فتُهشِّم أسوارَ ذواتنا، وتستبيح أرواحَنا، وتنتقف دموعَنا من مآقينا. إنَّ الحُزنَ ليس سِوى جَمْرٍ يُغطّيه رمادُ التصبُّر والتجلُّد وما إنْ تعصف به رياح الذكريات حتى يستحيلَ نارًا مُؤصدةً لا برد فيها ولا سلام. نحن لا نكتبُ أحزانَنا لنستمطرَ من الآخرينَ العطْفَ والإشفاق، بل نكتب لنتنفس، لننقذ أنفسنا من الاختناق، لنُسقِطَ مؤونة التحفُّظ بيننا وبين الأوراق؛ فتفيض أقلامنا بأمدادٍ من الذكرياتِ والحب والحنين والاشتياق؛ فهلِ الفقْدُ إلَّا ارتحالٌ عن العينِ وثواءٌبالذاكرة؟! “عين تراقب العصفور”، هو كتابٌ عصيٌّ على التصنيف والتجنيس، يدور في فلك الاستشفاءِ ويتفيَّأ ظِلال التنفيس؛ إذ تقاوم فيه الكاتبةُ الموتَ بالصوت، والكآبة بالكتابة، وكُل ذلك في قالبٍ سرديٍّ ينأى عن السيرة الذاتية بقدر ما يدنو منها، ويقترب من المنهجية الأكاديمية بقدر ما يبتعد عنها. ومهما يكن فقد شكَّل الموت في هذا القالب السردي بؤرةً مركزيَّةً تفوح منها رائحة الحزن فتعبق بفضاءات الخِطاب المسرود؛ فحيثما حلَّ الموت اشتعلَ السردُ حُزنًا، وتكشَّفت ملامحُ العلاقة المؤشّريَّة بين الموت والحزن، وهي علاقة عمادها السببية والمنطقيّة وفق السيميائية البيرسيَّة (العلامة الثانيانية) المتعلِّقة بالموضوع. فهل الموت إلا سببٌ للحزن؟ وهل الحزن إلَّا نتيجة للموت؟ ثم هل ذروة الحزن إلَّا موت الحبيب؟! وهل الحزن إلَّا كما عرَّفه يعقوب بن إسحاق الكِنْدِيّ، بأنَّه: “ألمٌ نفساني يعرض لفقد المحبوبات وفوت المطلوبات”؟! وبعيدًا عن الخوض في هذه التساؤلات فإنَّ مَن يجوس خلال كتاب الدكتورة ملاك الجهني “عين تراقب العصفور” يدرك أنه كتابٌ انتهض بثنائية الموت والحياة، تلك الجدليّة التي انبجست منها ثلاث حيوات على لسان الساردة الثَّكْلَى: الحياة ما قبل الموت وإبّان الموت وما بعد الموت. والناظر في كتاب “عين تراقب العصفور” يلحظ أنَّ الكاتبة لم تُصرِّح بجنس العمل؛ ما يعني افتقاد الكتاب مؤشّره الأجناسي، وهو افتقاد يتناغم وثيمة الفقد التي شيَّدتْ إيقاعًا رثائيًّا فرضَ نبرته وسيادته المُحكَمة على بِنية الكتاب ومتوالياته السردية، فكأنما موتُ المؤشِّرِالأجناسيِّ واختفاؤه عن صفحة الغلاف معادلٌ موضوعيٌّ يتماهى مع السُّرادقات الجنائزيَّة التي أحاطت بالبناء الحكائيِّ المسرود، ناهيك عن عتبة الإهداء التي لم تكن بمعزلٍ عن هواجس الكتاب وثيماته المُلحَّة. تقول الكاتبة في إهدائها: “إليه مرة أخرى”. والناظر في هذا الإهداء (الخاص) يلحظ أنَّ الكاتبة لم تُصرِّح فيه بِاسْم المُهدَى إليه، بل توسَّلت بضمير الغائب الذي يُعزِّزُ فكرة الغياب، غياب المُهدَى إليه (الزوج الفقيد)، لكنَّهُ غيابٌ يتزيَّا بِزيّ الحضور / غيابٌ ماديٌّ محسوس وحضورٌ روحِيٌّ مأنوس.كما تشي عبارة (مرَّةً أخرى) بأنَّ ثمة إهداءً آخر يسبق هذا الإهداء، وهو ما ألفيناه قارًّا في أحد كتب الدكتورة الجهني، وهو كتاب (قضايا المرأة في الخطاب النسوي المعاصر) الصادر عام 2015م؛ إذ تقول: “إليه زوجًا وصديقًا”. فنحن إذًا أمام إهداءين: (إهداء ما قبل الموت، وإهداء ما بعد الموت)، وكل ذلك يؤكِّد عُلوّ منزلة الزوج الفقيد، المُحرِّض على فِعْل الكتابة حيًّا وميتًا رحمه الله. كما أنَّ الكاتبة قد توكَّأت في فصول كتابها على عتبة التصدير المتموضعة في رأس كل فصل، ومن المتواضَع عليه أنَّ التصديرات - بحسب جينيت - تضطلع بغير وظيفة سواء أكانت وظيفة تلخيصية أم تداولية، وهذا ما تراءى لنا عند إدامة النظر في الاقتباسات التصديرية لهذا الكتاب؛ إذ عمدت الكاتبة إلى استثمار مجموعةٍ من الأبيات الشعرية والمقطوعات السردية والمقولات الفلسفية لعددٍ من الأدباء والمفكرين والفلاسفة عربًا وأجانبَ –بوصفها علاماتٍ ودوالًّا تحيل إلى موضوعة الموت وأدبيات الفقد ومآلاته. ولا يفوت عين القارئ أنَّ هذه التصديرات ذات النزعة التناصيَّة الكولاجية لم تُنتخَب على نحوٍ اعتباطيٍّ (مجَّانيّ)، ولم تَرِد مُنبتَّةً عن جسَد الكتاب بل أسهمت في إضاءة بنيته المحوريَّة المتوشِّحة بثيابِ الفقْدِوالحِداد، وفضلًا على ذلك فقد كشفت تلك التصديرات وسياقاتها المرجعيَّة عمَّا اكتنز به وعي الذات الكاتبة من ذخيرةٍ معرفيَّةٍ وكفاءةٍ تأويليَّةٍ على حدٍّ سواء. وكلَّما مضينا في دروب هذا الكتاب وأنعمنا النظر في أنساقه وسياقه أدركنا أنَّنا إزاء كتابٍ مشحون بالوفاء والحياء والكبرياء، سطّرته أنامل زوجةٍ رُزِئت بموت زوجها بعد عمرٍ حافلٍ بالحب والتضحية والعطاء، ولا ريب أنَّ فقْد الزوج من الرزايا العظيمة التي تورث النفسَ حُزنًا لا يفتأ يُلِحُّ على الذات الكاتبة المرزوءة بأن ترسم على جدران السرد لوحةً بانوراميَّةً مشحونةً بالشجْوِ الفاجع والماتعِ في الآن نفسه، ولعلَّ ابن رشيق قد أصاب حين قال في عمدته: “والنساء أشجى الناس قلوبا عند المصيبة ... فانظر إلى قول جليلة بنت مرَّة ترثي زوجها كُليبًا: ما أشجى لفظها، وأظهر الفجيعة فيه!! وكيف يثير كوامن الأشجان، ويقدح شرر النيران”. فعلى الرغم من أنَّ هذا الكتاب مُؤثَّثٌ بالفقد والحزن والأوجاع إلّا أنَّهُ عابقٌ بالرؤى والنقد والإبداع؛ فلا تفتأ الكاتبة تحقن فضاءاتها السرديَّة بجرعاتٍ من اللغة الشعرية والذخيرة المعرفيّة مستثمرةً عددًا من النصوص الموازية التي تعزّز رؤية الفقد وسرده من منظور الزوجات الفاقدات أزواجهنّ، على أنّ الكاتبة لم تخضع لهيمنة النقل على حساب العقل؛ بل ألفيناها تُسائل النصوص وتحاكمها وتوازن بينها، وتسوق الفرضيّات وتفكّكها وتدحض كثيرًا منها بالحُجج والبراهين المنطقية ذات الصبغة (اللوغوسية الأرسطية) نائيةً بفلسفة الموتوخِطابِها عن الوقوع في شَرَك (الباتوسية) التي تتبوَّأ فضاءات الحماسة واستثارة العواطف ودغدغة المشاعر. ومهما يكن، فإنَّ الذات الكاتبة وإنْ انصهرت في بؤرةالمأساة (التراجيديا) وسقطت في غيابة الفقد إلا أنها استطاعت النهوض وامتطاء خيول الرضا والحمدلة والحوقلة؛ إذ لم تتحاور مع الفقْدِ بنبرةٍ رومانسيةٍ مفرطةٍ في التشاؤم والسواد والخلاص الذي يقوِّض معنى الحياة، كما لم تتعامل مع الموت بوصفه مُعطًى فلسفيًّا عدميًّا، أو لغزًا غير قابل للفهم والتفسير كما يراه العبثيُّون وبعض الفلاسفة الوجوديين أولئك الذين لم ينكروا حتمية الموت بقدر ما تنازعوا حول فكرة الخلود التي جعلت مشكلة الموت وفق منظورهم هي “المشكلة الفلسفية الكبرى” بحسب رأي (أونامونو) الذي دوّنه (جاك شورون) في كتابه – أقول لم تتعامل الكاتبة مع الموت بنبرةٍ رومانسيةٍ مفرطة ولا بنزعةٍ عبثيَّةٍ عدميَّةٍ بلتعاملت مع الموت بنفسٍ راضيةٍ مؤمنةٍ بقول الله: “وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ”. وتأسيسًا على ما تقدَّم، فإنَّ الذات الكاتبة وإنْ هيمنت عليها ذاكرة (كونديرا) الشعرية التي تحتفظ بكل الذكريات الساحرة الجميلة، وإنْ تذبذبت هذه الذات بين شعور الفقد وفقد الشعور بالحياة فإنها لا تزال محفوفةً باليقين والاحتساب، ومستمسكةً بعُرى الإيمان التي لا تنفصم؛ وهو ما تُعزِّزه عتبة العنوان - التي أرجأتها إلى هنا لغايةٍ بنائية وتفسيرية – إذ شكَّل عنوان كتابالدكتورة ملاك الجهني، كما صرّحت هي بذلك، ضربًا من التناصّ مع عبارةٍ للكاتبة الأمريكية (جوان ديديون) التي فقدت زوجها ودوّنت تجربة الفقد في كتابها المترجم (عام التفكير السحري) مختتمةً كتابها بعبارة “ما من عين تراقب العصفور”؛ بيد أنَّ ملاك الجهني قد ألبست عنوان كتابها معنًى مُغايرًا؛ إذ استطاعت أن تخلع عنه رِداءالاجترار لتلبسه جلباب التحوير الذي أفضى إلى قلب الدلالة رأسًا على عقب فاستحال النفي إلى إثبات ما يشي بالرضا والإخبات لرب الأرض والسموات. لقد أدركت الكاتبة الجُهنيَّة قيمة الإيمان الحقيقية ثانيةً من أعِنَّةِ الجزع والسوداوية والعدمية التي تقوّض فكرة اللقاء الأبديِّ المُنتظَر.