رفوف أنيقة وعقول مزدحمة بالفراغ .

كان الكتاب صديقًا للوعي، حتى صار جزءًا من الموضة، وتحوّل الورق من ساحةٍ للبحث عن الحقيقة إلى مرآةٍ ناعمة للذات. في زمنٍ مضى، كان القارئ يدخل إلى الكتاب كما يدخل إلى معبدٍ للمعنى، يخرج منه مثقوبًا بالدهشة، غارقًا في أسئلته الجديدة. واليوم، يدخل إليه كما يدخل إلى متجرٍ للصور، يبحث عن الغلاف الأكثر جاذبية، والعبارة الأكثر اقتباسًا، والزاوية التي تُرضي الضوء. صار الحبر تذكارًا أنيقًا أكثر منه أثرًا معرفيًا. صارت القراءة خفيفة، بلا عُمقٍ، بلا ألمٍ، بلا أثرٍ في الروح. كان الكتاب في زمنٍ ما هو الحليف الأول للوعي، واليوم غدا تابعًا للترند. ما يُروّج يُقرأ، وما لا يُصوَّر يُنسى. لم تعد القراءة تربيةً للعقل، بل استعراضًا للذوق. تتكدّس الكتب على الطاولات كما تتكدّس العطور في المتاجر الموسمية، ويتسابق الناس إلى اقتناء “الأكثر مبيعًا” لا “الأكثر تأثيرًا”. تتشابه الرفوف، وتتشابه الصور، وتضيع الفكرة في الزحام. القارئ الذي كان يختار الكتاب لأنه يبحث عن سؤال، صار يختاره لأنه يُناسب لون قهوته أو ديكور غرفته. ذلك التحوّل ليس في الأذواق فحسب، بل في بنية الوعي ذاته تحوّل من قراءةٍ تُنبت الفكر، إلى قراءةٍ تلمّع الانطباع. وفي هذا الزمان الذي يقيس الثقافة بعدد المتابعين، ظهرت النوادي القرائية كظاهرةٍ لافتة، تجمع الناس حول الكتب، لكنها أحيانًا تفرّقهم عن المعنى. جلسات أنيقة، أصوات متداخلة، عدسات حاضرة أكثر من الأفكار. تُختار الكتب بما يناسب صورة الغلاف، لا عمق الفكرة، ويُدار النقاش كما تُدار الحفلات، بسلاسةٍ وابتساماتٍ مصمّمة. لم تعد القراءة عُزلة معرفية، بل حدثًا اجتماعيًا يُدار بمكبرات الصوت. ومع ذلك، تبقى في كل مجموعة قارئة روحٌ واحدة تقاوم هذا التيار، تقرأ بصمتٍ لأنها تعرف أن الفهم لا يحتاج جمهورًا. لكن وسط هذا الانزلاق نحو السطح، ظهرت إشارات أملٍ تقود إلى التوازن. وزارة الثقافة وهيئة الأدب والنشر والترجمة والشريك الأدبي لم تكتفِ بمراقبة المشهد، بل فتحت أبوابًا واسعة ليعود الكتاب إلى موقعه الطبيعي في مركز الفعل الثقافي لا هامشه. أطلقت الجوائز والمبادرات التي تحتفي بالقارئ الفعلي، لا بالمستعرض، وبالمكتبة التي تصنع الوعي، لا التي تزيّن الجدران. صنعت بيئاتٍ ثقافيةً جديدة، جعلت النقاش جزءًا من الهوية، والقراءة فعل مشاركةٍ فكريةٍ لا انعزالٍ فارغ. إنها تحاول أن تُعيد للكتاب احترامه الأول أن يكون وطنًا لا موضة. غير أن التغيير لا تُحدثه المؤسسات وحدها، بل القارئ حين يعيد اكتشاف معنى أن يمسك كتابًا لا ليتباهى به، بل ليُصلح شيئًا في داخله. حين يدرك أن القراءة ليست هروبًا من الواقع، بل عودةٌ أكثر وعيًا إليه. القراءة ليست خلاصًا من الضجيج، بل مواجهةً معه، بالمنطق لا بالهروب. ليست مجرد متعةٍ جمالية، بل مسؤولية فكرية. من يقرأ حقًا لا يخرج من النص كما دخله، بل يخرج مختلفًا، وكأن الحروف قد أعادت تشكيل روحه من جديد. الكتاب لا يطلب منّا أن نحتفي به، بل أن نحترمه. لا يريد التصفيق، بل الإصغاء. نحن لا نُنقذ الكتاب حين نقرأه، بل ننقذ أنفسنا من النسيان حين نفعل. القراءة ليست زينةَ مثقفٍ، بل طريقتُه الوحيدة للنجاة. وحين يعود القارئ ليقرأ في صمتٍ، بصدقٍ، بشغفٍ لا يراه أحد، حين يتذكّر أن كل حرفٍ يقرأه هو مساحة نجاةٍ من الزيف، عندها فقط سينجو الكتاب من الخيانة، وسينجو القارئ من العدم.