بقـايــا زاويــــة.
لا أعلم لِمَ أهتدي إليّ وإليك بنصّ وكتابة. ضلّت أفكاري عن تحصيل الأجوبة، وكتبتُ كثيرا وعينك المهمِلة ضلَّلتني مزيدا، بل ضللتَ عني مثلها حتى ما عُدتَ تقرأ؛ فعاقبتُ كلانا بترك الكتابة ظنا مني أنه عقاب جماعي! حتى تحجّرَ الدم في أطراف أصابعي؛ حيث كُتبت حياةُ يديّ بالتلوث بالحياة، بالكتابة نفسها وبالأحبار ونقرات الأجهزة وانتظار لمسةٍ كالحلم... وأشياء أخرى ما عادت تهديني في طريق خالٍ... نذهب إلى الطريق فيتنصَّل، وما أكثر الضالين! كم هو تائه نظري حين أفكّر بجدوى الطريق بعد أن فقدتُكَ فيه، أراك بجانبي أحيانا لكنك غائب. يتوارى كثيرون تحت أقنعة تخدعهم هم أولا، وكم يدرك المحبُّ تلك التغيرات قبل أن تقع، وقد تغيرتَ كثيرا مهما ادّعيتَ أنك على الطريق. هل ذنبُ الطرقات أنها تجمع الضالين أيضا؟! ولا أعلم لماذا يُفقَد الناس في تلك الطرق الشخصية جدا، ولمَ أجِدُ آخرين لا يهمونني، وأبحث عن تلك الأسباب التي تدعوني لأبحث في وجوههم عما يخصني أحيانا، حتى ينتهي الأمر دائما بالمفاجآت… كيف تضيع مني وجوهٌ ترسَّبت في داخلي، وينصرف عني ما كان لي؟! ويبقى دائما ما لا أراه؟! أوَتعرفُ أحدا مثلي؟ أو أي بشرٍ تملّص من نفسه التي تلاحقه بأعماقه وبإلحاح لتشقيه؟ إذ الكتابة ها هنا شقاء خالص، وعقوبة مستنزَفة، وضلال بلا معنى... ولعلك بعيد عن كل شيء. في سباق كهذا؛ أراك دائما تتفوق كالأرنب، أمّا أنا فلا أعرف تصنيفا لي، لا أقول بأنني مثلك أرنب يعرف طريقه جيدا ويحفظ إمكاناته، رغم شبهي به في الأوقات الضائعة، ولا أقول بأني سلحفاة؛ إذ أهدافي نفسها ضائعة، لكنني أرقب السباق بشجن وجرح غائر... ربما أشبه مالك الحزين بحزنه المهدور؛ ما يذكرني بإبراهيم أصلان، الأمر الذي يعيدني إلى تفاصيل التفاصيل لأكتب بهدوء... وهكذا تعيدني المفارقات دائما إلى حروفي، لأكتب لنفسي، ولأكتب لك بلا مخرج واحد، ولأعاقب أشياء أخرى بإمساك أقلامي وإشاحة نظري عن الأوراق، فغضب الكتابة يبدو في اكتساح السيل كما هي في الإجداب. وقد أمسكتُ عن الكتابة لك فعاقبتُ نفسي وحدها. وها أنا أراجع قراري فأعاقب الرسائل لا الكتابة، أعاقبها بالمنع من الوصول إليك، لا تنسَ مصير الرسائل وإن ارتبطت بالتحليق؛ إذ تأوي إلى دُرج وكتاب فتُطوى أو تُنسى، لكنّ أصابعي قدرُها التحليق، أن تداعب الرياح وأوجه المسطحات واليابسة، وتأوي إلى الظلال وتنافس الأعالي، تفعل كل هذا كسائحة لا تنتمي، فقدرها ألا تعودَ إليّ إلا جسدا، وأن تظل هناك منغمسة في العالم لتحررني من الأسوار والمعاقل وحِدَّة الزوايا، وتذوب في العالم لا أن تتحجَّرَ بدمها، فلا تُبقي لي إلا ما يخصني بعد أن تبوء بذنوب التلوث والفلترة. ألم نتفق أنني سأكتب لي ولك؟ وأن كتابتي محض هداية لكلينا؟ إنك لا تعلم ما الذي أجده في العتمة مما تضلله أعين النور. تحريض الكتابة حول ذلك لا يتوقف مهما تمنّعتُ ولوّحتْ لي الإغراءاتُ؛ ففي أقصى الروح زوايا تكاد أن تكون مهجورة، تثير أغبرتها كلمة أو رائحة ولحن فتضطرب. الصور لا تشد أزرها لتحنيَ رأسها حتى تمرّ العاصفة، والحنين طفلها الرضيع أبدا، وأعصابها عنكبوتية الوهن؛ لا تدّخر نفسها للصمود بقدر ما تلتهِمُ اللحظةَ بكلتا يديها، وأصابعي ذاتها حبّة مسكّن قريبٍ إذا ما ضاقت بها الزوايا. أجدك هناك أحيانا في الفوضى المغرية، وأدسّ يدي لانتشالك، لأفهم عواصفي؛ فتبدو كطفل منصرف إلى ما يغريه من عبث، مشغول بملاعب الرمل والصابون وانزلاق الوقت بينهما، ترفض كل شيء من شأنه الهداية! أو أنّ هذا شبحك وحده يعبث بعقلي؟! كل هذا يحدث في العتمة؛ حيث يباغتني ما تتعثر به يداي وأنت غائب، ولا ضوء يتسلل إلا بانتهاء نصّ ما، وأحرف لا تودُّ قراءتها، لأنك مشغول بالأنوار والأضواء… حيث تتباهى الكائنات أمامك بأكثر من الأرانب والسلاحف أقنعةً، وتشدو بأجمل مما ينهي به الطائر الحزين لوثة حياته، هناك حيث تبدو الأوقات الضائعة ترفٌ في رصيد العمر، ولا روح تنزوي منزعجة في أقصى الزوايا لتحاسب نفسها… يخرج الضلالُ هنا من معانيه الاستعارية ويضرب كبد الحقيقة، لا تنبسط يداي أمام صدمات شتى، وتحجم عن الكتابة كأن الدماء فرغت منها، تعوزني الحيلة وقد فشلتُ في أخذك لصفّي، فأوصيك مستاءةً، بعين مكسورة، وبرجاء من يعطي العيش فرصة أخرى، بأنْ لو التقيتَ في عالم النور بمن تخلَّصَ من زواياه دون وقوع سقف أو عمود، ودون أن تجرح الأوهام والحقائق يديه، وبمن لم يعاقب رسائله وتدويناته بالصمت والتمزيق أو تبادله العقاب؛ أن تصلني به رجاء، بحكم خبراتك ومعارفك اللانهائيين صلني بأي منهم، لعلي أهتدي.