القادمون إلى المساجد.
كلما ارتفع صوت المؤذن، بدأت القلوب تستجيب قبل الأقدام، وتهيأت الأرواح لرحلة قصيرة في المسافة، عظيمة في المقصد. إنهم القادمون إلى المساجد؛ مشهد يومي يفيض بالجمال، تختصره خطوات الإيمان وهي تتجه إلى الله. ترى الطاعن في السن يحمل عصاه كأنها امتداد لعمره، والشاب يسير بخطى واثقة لا يسبقها التردد، والطفل يقلد أباه ببراءة لا تعرف الرياء، والعاجز يجرّ كرسيه المتحرك بإصرارٍ يسبق كثيراً من الأصحاء. تتأملهم فتدرك أن هذه الخطوات الصغيرة ترسم طريقاً كبيراً إلى الجنة. تراهم في المدن الكبيرة والقرى، في طرقات المدن وممرات الاحياء، وفي استراحات الطرق الطويلة، بل حتى في المطارات حين يُرفع الأذان بين حركة المسافرين. بعضهم يفترش الأرض على عجل، وآخرون يقفون في جماعة على أطراف السفر، كأن الأرض كلها تحولت إلى مسجد كبير. وفي الطائرات، خصوصاً في رحلات الخطوط السعودية الطويلة، تجد المصلى في آخر المقصورة، حيث يتعاقب الرجال في الخشوع والركوع والسجود وهم بين الأرض والسماء. مشهد يبعث الطمأنينة، ويستحق شكر المولى عز وجل، وكل التقدير لتلك الجهود التي جعلت العبادة ممكنة حتى في الجو. القادمون إلى المساجد لا يجمعهم سوى نداء واحد: حيّ على الفلاح. لا صفة بينهم ولا مرتبة تفرقهم؛ يجلس الغني بجانب الفقير، والوزير بجوار العامل، والمواطن إلى جانب المقيم، الكل على سجادة واحدة، في صف واحد، يتساوون في الوقفة والانحناءة والسجود. إنها المساواة التي لا يقدر عليها قانون، وإنما يخلقها الإيمان وحده. وهذا الجمال لا يعني أن جميع المصلين على درجة واحدة من وعي روح الصلاة، فالصلاة في جوهرها ليست حركة جسد فحسب، بل حال قلب يستشعر الوقوف بين يدي الله. فبعضهم يؤديها عادة لا عبادة، فيغيب عنهم سرها الأعظم الذي قال الله فيه: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. وليس العيب في الصلاة ذاتها، بل في غياب حضورها في القلب. ولهذا ترى من يحافظ على الجماعة ولا يحافظ على لسانه، أو من يسابق إلى الصف الأول ويغفل عن حقوق الناس. هؤلاء لم يدركوا جوهر الصلاة الخفي، لأنهم صلّوا بأبدانهم ولم تصلِ معهم أرواحهم. ومن الخطأ أن نحمّل الصلاة مسؤولية سلوك بعضهم، لأن الخلل ليس في العبادة، بل في استشعار قيمتها. إن الخلط بين علاقة المصلي بربه وعلاقته بالناس خطأ في الفهم والتقدير؛ فصلاح الأولى لا يعني كمال الثانية. ومن يتأمل وجوه المصلين قبل الإقامة، يدرك أن المساجد ليست جدراناً وسجاداً، بل مرايا للنفوس وملاذاً للقلوب التي أثقلها الزحام. منهم من جاء شاكراً، ومنهم من جاء باكياً، وآخر جاء مستغفراً، لكنهم جميعاً يخرجون بوجه أكثر صفاءً، وبروح أكثر طمأنينة. إنهم القادمون إلى المساجد، الذين لا يُنادَون إلا لبّوا، ولا يُذكَّرون إلا خشعوا، ولا يسلكون الطريق إليها إلا وكتب الله لهم في كل خطوة مغفرة وأجراً. إنهم يمشون بخطوات هادئة في زمنٍ تتسارع فيه الخطى إلى كل شيء إلا بيوت الله، في زمن ازدحمت فيه الشاشات وبهتت الأصوات، ما زالوا يثبتون أن النور يبدأ من تلك الخطوات البسيطة التي تمضي إلى بيوت الله. هؤلاء هم المخلصون حقاً، الذين ما شغلتهم الحياة عن مولاهم، ولا أنستهم الدنيا طريق السجود.