في كل مناسبةٍ تخصُّ الترجمة، أرفعُ عاليًا « غترتي» و « عقالي» تحيةً لسربٍ طويلٍ من المترجمين المبدعين الذين يسكنون القلبَ والذاكرة، العاشقين للغة العربية وللأدب الجميل وللإبداع الحيِّ في العالم الذين اشتغلوا بدأبٍ على إثراءِ الوجدانِ، وصقلوا الذائقةَ وأضافوا وردًا كثيرًا فاتنًا لحديقةِ الروح .. هنا إضاءاتٌ يسيرةٌ عن عددٍ من هؤلاء المقمرين. 1 - صالح علماني غابَ أهلُ الترجمةِ الكبار، أصحاب القامات السامقة في هذا الحقل الرائع، مثل سامي الدروبي وإحسان عباس وعفيف دمشقية وممدوح عدوان وعبدالرحمن بدوي وسهيل إدريس وتوفيق صايغ، وسرب طويل ممن أتقنوا ترجمةَ نصوصٍ وأعمالٍ مدهشةٍ من «الضفاف الأخرى» إلى اللغةِ العربية..لقد أحزنني أفولُ هؤلاء المقمرين الذين هَرَّبُوا إلينا الكثيرَ من تلك التجليات الإبداعية والفكرية العظيمة وظلّوا حريصين على أن تكونَ محتفظةً بالكثيرِ من وهجها واشتعالاتها، وأضافوا إلى المكتبة العربية الكثير من « عيون « الأدب العالمي بإخلاصٍ متناهٍ وبجلَدٍ عظيمٍ قَلَّ نظيره، وظلوا في تحدٍّ رائعٍ مع تلك المقولة التي ترى أنّ « الترجمةَ خيانةٌ «. هنا يسعدني أن ألقي التحية على مترجمٍ فذ، كان يشرق علينا كما تفعل الشمس، من دون مللٍ أو كسلٍ أو تسويف وكان ينتجُ مثل حقلٍ ثمين، و ينفقُ ضوء عينيه على نقل « أرغفة الضوء « إلينا بجلَدٍ رائع ..الكثير من الأدب المكتوب بالإسبانية في أمريكا اللاتينية ـ سردًا وشعرًا ومسرحًا ومحاضرات ودراسات ومذكرات ـ نقله إلينا بفصحى متألقة لدرجة أنك وأنت تقرأ أيَّ كتابٍ قام بترجمته تحسُّ بأنك تقرأ كتابًا كُتِبَ أصلاً بالعربية لفرط براعة أسلوبه وأناقة حبره ..إنه صالح علماني الذي عاشَ في إسبانيا أكثر من ثلاثين عامًا وأتقنَ لغة « لوركا « إتقانًا يكادُ يكونُ تامًّا، ولا أبالغ إنْ قلتُ إنه لا يتقنُ هذه اللغةَ فقط بل إنه كان يجيدُ تتبع ظلالِ ظلالها. علماني أفنى حياته جالسًا إلى منضدة الكتابة، يترجمُ أجملَ الكتب، ويصطفيها بعنايةٍ فائقة من الأدب المكتوب بالإسبانية، وكانت ترجمتُهُ مكتوبةً بحبرِ القلبِ وضوءِ الروح. ولا أبالغُ إنْ قلتُ إننا نحن الذين نقرأ بلغةٍ واحدةٍ مدينون له بالكثيرِ من الفضل .. ولولا سطوع صالح علماني وسواه من المترجمين الكبار في حياتنا الثقافية لكنا حتمًا ممن ينتمون إلى « جوقةِ العميانِ». أخيرًا ينبغي أنْ أشيرَ إلى أن هذا المترجمَ العظيم - رحمه الله - هو من كان يستحقُ أن ينالَ جائزةً عظيمةً تليقُ به وبجهده المحترم وليس أولئك «الهلافيت» الذين اتخذوا من الترجمةِ وسيلةً للتجارةِ والتكسُّب، ومدخلًا عريضًا للذيوعِ العابر ! ختامًا أقول : من تلك التلال العالية والمهمة من الكتب التي ترجمها علماني أشير هنا إلى باقةٍ ثمينةٍ منها، قرأتها بشغف وأنفقتُ عليها ضوءَ عينيَّ بمحبّةٍ صادقة، منها : مئة عام من العزلة، سرد أحداث موت معلن، الحب والظلال، كرة القدم في الشمس والظل، ساعي بريد نيرودا، عشت لأروي، قصص ضائعة، النشيد الشامل لنيرودا، مختارات شعرية لرفائيل البيرتي، والقائمة تطول. 2 - سعدي يوسف أتحدثُ هنا عن سعدي يوسف المترجم تحديدًا.. هذا المحب للشعر، المخلص له، يدركُ جيدًا عوالمَ الشعراء، بيئاتهم، منابعهم، طينتهم، وإلى أيِّ قطرةٍ ينتمون ؛ ولهذا يمنحُ كلَّ واحدٍ منهم الترجمةَ التي تليقُ به وبصوته ومناخاته ولغته وملامحه وقسماته العريقة..إنه يهجسُ دائمًا بمقاربةِ إبداعِ « الضفاف الأخرى «، بيد أنه لم يكتفِ بالأحلام والوعود والأماني، إنما كرّس وقته وضوء عينيه على ترجمة الشعرِ والسردِ معًا. إنني هنا أتذكرُ الكثير من روايات الآخرين التي ترجمها سعدي مثل «الحوالة» لصنبين عثمان و « المفسرون» لوول سوينكا...الخ، كما أتذكر ترجماته الممتعة لوايتمان، كفافيس، لوركا، أونغاريتي...الخ وهو في مشروعه البارع هذا استطاعَ أن يحتفظَ بجمر القصيدةِ ناصعًا وفتيًّا رغم مرور النصِّ بمحطاتٍ لغويةٍ في الكثير من الأحيان. سعدي الذي كان نشيطًا كنحلة لم يكتفِ بمقاربةِ شعر « الضفاف الأخرى» ونقله من لغته الأصلية أو لغةٍ وسيطةٍ إلى العربية في وعاءٍ نثري، بل اجتهدَ كثيرًا في ترجمةِ مقاطع من قصائد « لوركا» لتكونَ أقربَ إلى قصيدةِ التفعيلةِ في زيِّها العربيِّ الجميل..وقاده حماسُهُ الكبير وبراعتُهُ الفذَّة إلى ترجمةِ مختاراتٍ من شعر « أونغاريتي» ترجمةً جعلت هذه المختارات الصادرة تحت عنوان «سماءٌ صافية» كما لو كانت مكتوبةً في الأصل على طريقة « قصيدة التفعيلة» العربية بكامل مفاتنها ومناخاتها وإيقاعاتها العذبة. في « سماء صافية» تجلَّى سعدي كثيرًا وهو يترجم « أونغاريتي» شعرًا صافيًا يضاهي تمامًا الشعر العربي الحديث في مستوياته الأسمى وفي تجلياته الأكثر صفاءً...وهنا تكمنُ أهميةُ أن يترجمَ شعرَ الآخرين شاعرٌ مبدعٌ متمكنٌ من أدواتِهِ وضليعٌ في معرفةِ أسرار اللغةِ التي ينقلُ عنها واللغة التي يصبُّ في وعائها المحتوى الجديد. إننا حين نقرأ « سماء صافية» يتبدّى لنا شعر « اونغاريتي» كما لو كان شعرًا عربيًا خالصًا، لم يرتحلْ ولم يستخدمْ وسائلَ نقلٍ عديدةً حتى وصلَ إلينا سليمًا معافى محتفظًا بالوزنِ والإيقاعِ والقافية؛ لأنَّ « أونغاريتي» نفسَهُ كان ميَّالًا إلى الغنائية وانَّ مناخَهُ الشعريَّ كان قريبًا من مناخ الشعر العربي. يكرهُ سعدي النقلَ الحرفيَّ لكنه في الوقتِ عينِهِ يتشبثُ بالأمانة، وهو لهذا - ولفرط إحساسه بالمسؤولية - يقضي يومًا كاملًا في ترجمةِ قصيدةٍ قصيرةٍ واحدة. 3 - عفيف دمشقية يذهلني عفيف دمشقية بترجمته المبدعة للأعمال الروائية التي أشعر وأنا أقرؤها أنه هو مبدعُ تلك الأعمال فيما يتوارى اسم الكاتب صاحب العمل الأدبي خلف قامة عفيف الذي يبدو كسنديانةٍ فارهة. عندما ترجم دمشقية روايات أمين معلوف عن الفرنسية ( سمرقند، وليون الإفريقي، وحدائق النور وسواها ) ذاع اسمه في الساحة العربية وفي وسطنا الثقافي المحلي ذيوعًا واسعًا وعميقًا، وأضحى اسمه مقترنًا بأمين معلوف وأعماله الإبداعية التي تلقفتها أيدي القراء باحترامٍ بالغ وبدهشةٍ نادرة، وأضحت بصمتُهُ حاضرةً حضورًا لافتًا في النصِّ العربيِّ كما لو كان هو المؤلف الحقيقي له، فأسلوب هذا المترجم الفذ عربيٌّ ناصعٌ وله خاصية تدفق الأنهار، ثم إن هذا الاقتدار الخلاق الذي يتمتع به دمشقية استطاعَ أن ينسينا حقيقة أن هذا العمل الأدبي مهاجرٌ من لغةٍ إلى لغةٍ أخرى مغايرة.. فليس ثمة ركاكة أو غموض، وليس ثمة أسلوبٌ ملتبس أو لغةٌ يابسة أو عبارات مفخخة بالرطانة، ولا تشعر أنك تقرأ نصًّا نافرًا «كأعناق الجياد»، بل على العكس تلمس بضوء عينيك وملح ذائقتك لُحْمَةَ النص، ولا تتعثر كثيرًا وأنت تقرأ - كما يحدثُ عادةً مع بعض الأعمال المترجمة - ولا تتوقف فجأةً لشعورك بأنَّ ثمة حجرًا ملأَ فمك. ترجمة عفيف دمشقية حاذقة، ماهرة، بليغة، ولغته حديثة، مشرقة، مجلوّة كالأقمار ..وميزة « دمشقية» أنه - قبل أن يكون مُلِمًّا بالفرنسية وآفاقها ومناخها - مُلِمٌّ بالعربية وجمالياتها وأسرارها الحصينة التي لا تتكشف إلا لفارسٍ نبيل، وهو بحق فارسٌ من فرسانها النبلاء القادرين على اقتحام قلاعها المنيعة وأبراجها المضيئة. عفيف كان يملأ يديه بأجمل ما في اللغة العربية من جواهر ولآلئ وشموس وأقمار. بعد رحيله صدرت رواية «صخرة طانيوس» لأمين معلوف التي حازت على جائزة جونكور الفرنسية..عندما قرأت الرواية اكتشفت أنَّ هذا العمل المترجم عن الفرنسية - على ما فيه من روعة - لم يكن بدرجة الدهشة التي لمسناها في « ليون الإفريقي» و «سمرقند» و «الحروب الصليبية» من حيث جودة اللغة وعذوبتها ورهافتها. بعض الأصدقاء الذين أدركوا الفرق أعادوا هذا إلى أنَّ المترجم بات مختلفًا ( الترجمة كانت لجورج أبي صالح).. وأنَّ وهجًا ناصعًا في الرواية ربما لم تدركه كثيرًا ترجمةُ أبي صالح الذي يختلف أسلوبه عن أسلوب « عفيف» هذا الذي يصبُّ في النص المترجم كل ما لديه من نار ونور. إن براعةَ دمشقية لا تقف عند ترجمته أعمال أمين معلوف حسب، بل إن براعته يتباسق نخيلُها في كل عملٍ أدبيٍّ ينهضُ بترجمته. 4 - بكر باقادر أحتفي به دائمًا، ليس بوصفِهِ أستاذًا جامعيًّا متوهجًا كنجمةٍ سخيةٍ في قاعاتِ الدرس، أو كقمرٍ فخمٍ يثري عقولَ طلابه الذين وجدوا فيه نهرًا دفَّاقًا ليس مؤهلًا للنضوب. نعم، أحتفي به في كلِّ وقتٍ بوصفِهِ مثقفًا مهمًّا ومترجمًا بارعًا لا يحسنُ التقوقعَ في « قلعتِهِ» العلمية، ولا يتحصّنُ في برجِ تخصصهِ الإنسانيِّ الاجتماعي ولا يلوذُ بالعزلةِ ولا ينأى بعيدًا عن حركة الثقافةِ العربيةِ والعالميةِ معًا. الدكتور بكر باقادر منفتحٌ على حقول الثقافةِ الواسعةِ والعميقةِ والمرموقةِ، كثيرُ الاطلاع على ما تثمرهُ المطابع وعلى ما تنتجُهُ أصابعُ المشتغلين في الحقل المعرفي والإبداعي الخلّاق. إنه أستاذٌ كبيرٌ مستنير، وهو مثقفٌ من الطرازِ الرفيع، قارئٌ نَهِمٌ، متجدّدٌ كنهر، ومع هذا بسيطٌ كشمعة، لطيفٌ كنسمة، وقريبٌ من الروح..حين تجلسُ بين يديه يملأُ ثيابَكَ بعطرِ أزاهيره الوارفة، ومِسْكِ معرفتهِ الساطعة، وضوعِ ما تزخرُ بهِ ذاكرتُهُ من معارف..لا تلمسُ فيه غطرسةً، ولا تلمحُ في كلامه نرجسيةً كتلك التي نجدها عند سواه، ولا يمارسُ عليك « أستذةً» أبدًا، ولا يصدّعُ رأسَكَ بتنظيراتٍ يتقنُ حفظها الحافظون المتسكعون على أرصفةِ الفكر والنقد والأدب. الدكتور بكر باقادر هذا المفتونُ بالرياضياتِ التي يحملُ شهادةً جامعيةً فيها دفعَهُ حِسُّهُ المعرفيُّ البديع إلى شواطئ العلوم الإنسانية، غير مكتفٍ بالوقوف على الشاطئ الجميل متأملًا ومعجبًا، بل قرَّرَ دائمًا وبعزمٍ حصيفٍ أن يغوصَ عميقًا في الفكر الاجتماعي ؛ ليحصدَ فيه شهادتَهُ « الكبيرة »..ومع هذا لا يختبيء خلف بريقِ « الدال» ولا يفتتنُ به بل يضيفُ إليه بخلاف أولئك الكسالى الذين يكتفون بالتمترسِ خلف ظلالِ اللقبِ الأكاديميِّ ولا ينتجون بعد ذلك شيئًا ينفعُ الناسَ ويمكثُ في الأرض. إنَّ باقادر بإنجازهِ البحثيِّ الدؤوب وبجذوره الراسخة في قضايا الواقع الاجتماعي وباطلاعه على مآثرِ المفكرين والمبدعين في العالم وبترجماتِهِ المصطفاةِ يضيفُ إلى مجتمعِنا وعيًا جديدًا مشرقًا وِعميقًا خصوصًا وأنه يشتهرُ بإخلاصه العلمي والبحثي وببذله الإنتاجيِّ الذي لا يعرفُ السآمةَ والدِّعَةَ والملل..فهو ليس ممن يتشبثون بالأقوال وليس ممن يطلقون بالونات « المشاريع» الكبرى التي تؤولُ في المحصلةِ الاخيرةِ إلى محضِ هُراء..لقد عرفناه دائمًا يقدُّمُ مشروعَهُ البحثيَّ بصمتٍ نبيل من دون «بروباغندا» ..كذلك وجدناه يترجمُ كتبًا مهمَّةً في الحقل الإنساني ولا يتبعها باستعراضٍ أجوف أو نفخةٍ كاذبة..أيضًا وجدناه مشرفًا على ترجمةٍ جميلةٍ وواعيةٍ لمختاراتٍ قصصيةٍ من أدبنا المحلي دافعًا بها إلى أفقٍ عالميٍّ ؛ ليقولَ للآخر إننا لسنا نفطًا ورملًا وصحراء إنما نحن أيضًا مبدعون كسائرِ خلقِ الله نتمتعُ بوهجِ الروحِ وإشراقةِ الأعماق. أخيرًا أقول: عندما كنتُ طالبًا في كلية الآداب بالجامعة،كنتُ ألتقي به في المَمَرِّ أحيانًا، وكنتُ إذَّاك أتحدَّثُ إليه بمتعةٍ كبيرة، وكان حديثُنا دائمًا عن الكتب الجميلةِ والساحرة، وكان يقومُ بدوره التنويريِّ على أكمل وجه كونه قارئًا شغوفًا بالإبداعِ المدهشِ والأصيل، وكان حقًّا بمثابةِ البوصلةِ الذكيةِ التي تدلنا - نحن طلابه والمقربين منه - على أروع الكتب ..لقد كان يفعلُ هذا بمحبّةٍ كبيرةٍ لنا وبعشقٍ كبيرٍ للثقافةِ من دون تعالٍ أو أستاذيةٍ أو غطرسةٍ كريهة، كذلك كنتُ أجده دائمًا في معارض الكتب - حتى بعد أنْ أصبحَ يشغلُ منصبًا رفيعًا بوصفهِ وكيلَ وزارةِ الثقافة - وكان هو هو دائمًا وكما هي عادته، بسيطًا متواضعًا بشوشًا نبيلًا مُحِبًّا للجميعِ، قريبًا من الناس، يصطفي الجمالَ المحضَ والفتنةَ الباذخة.