الله بالخير!

عبارة “الله بالخير” هي نفسها التحيّة المعروفة والمُتداولة في الجزيرة والخليج: “صبّحك الله بالخير” أو “مسّاك الله بالخير”، وهي التحيّة اللطيفة التي يُلقيها العراقيون كافّة؛ من شمال “زاخو” إلى جنوب “الفاو”، وتُقال للضيف أو الصديق لإعطائه شعوراً بالترحيب وحُسن الاستقبال، وللتبسّط وإذابة الجليد عند الرغبة في الحديث مع الغُرباء. ومع أن مثل هذه العبارة الجميلة هي اختزال مُكثّف لكلّ التراث والتقاليد الخلّاقة للعراقيين في استقبالهم ولقاءاتهم للقريب والغريب، إلا أنه يُلاحظ نُدرة مثل هذه العبارة بصفةٍ عامّة هناك، فيما يُمكن أن يُدرج في قاموس الأريحيّة وخِفّة الظِلّ، وكذلك الفُكاهة وخِفّة الدّم. والنُّكتة والسّخرية في الحقيقة، ظاهرةٌ أدبية إنسانية جوهرية عالمية، شأنها في ذلك شأن القصص والحِكم والأمثال والأساطير؛ درسها عالم النفس “فرويد” مُلاحِظاً تشابُهها الكبير مع الحُلم، فيقول بأن: “النّكتة وسيلة دفاعية لا شُعورية، يعتمد عليها الإنسان للتنفيس عن الغضب المكبوت في صدره”. وهذا رأي يوافقه عليه كثيرٌ من العُلماء، فالنّكتة تُعتبر دليل حيوية وقُدرة المُجتمع على التفكير والنقد البنّاء. وقد كان تاريخ الأدب في العراق يحفل بالفكاهة، ففي أيام مجد الحضارة العربية في العهد العباسي أصبحت البلاد جنّة غناء في هذا المجال؛ من إمام السخرية في الشّعر “ابن الرومي” إلى إمام الظّرف في النثر “الجاحظ”. أما في العصر الحديث، فإن العراقيين لم يشتهروا بالفكاهة ولم يألفوها حتى ثلاثينيات القرن العشرين، عندما أصدروا صحيفة “حيزبوز” الساخرة، وقبلها في العشرينيات مجلّة “كنّاس الشوارع” والتي لم ترُقْ فُكاهاتها لأحدهم، حتى أنه هاجم مؤسّسها “ميخائيل تيسي” وأصابه بجراحٍ بليغة. ومن الطريف أن نذكر ونُقارن أنه في العام الذي بدأ إصدار مجلّة “كنّاس الشوارع” في عام 1925، أصدرت “روز اليوسف” مجلّتها التي أصبحت مدرسة كاملة للصحافة الساخرة في “مصر”، بينما نُقل مؤسّس المجلّة العراقية للمستشفى. أما صحيفة “حيزبوز” الأسبوعية فقد كانت تُعدّ من أبرز الصحف الفكاهية، وقد جمعتْ بين الكاريكاتير الانتقادي والمقال الهزلي، وسُميّت بهذا الاسم على لقب مُديرها المسئول “نوري ثابت”، المُلقّب “حيزبوز” أي: الشاطر أو النبيه، واستمرّت الصحيفة بالصدور من عام 1931، حتى وفاة مديرها عام 1938. ولم يكن للقوم أي معرفة باللّغات الأوروبية وما ضمّته بين أكنافها من سُخريةٍ وكوميديا، تجلّتْ في أعمال عمالقةٍ مثل: شكسبير وموليير وبرنارد شو، إضافة إلى الانقسامات الطائفية والاضطرابات السياسية التي لم تكن تسمح بالسخرية والتهكّم. من الكُتّاب العراقيين الساخرين المعاصرين “خالد القشطيني”، الذي اتّسمت كتاباته في صحيفة “الشرق الأوسط” بالفكاهة السهلة خفيفة الدّم، وكان يبتكر في مقالاته الموضوع الكوميدي الساخر من أحداثٍ قد يقفُ البعض أمامها في حيرةٍ من أمره: هل يُدرجها ضمن الفكاهة العامّة أو الخاصّة؛ فهي ليست فردية بحتة، بل تميل دوماً إلى الجماعة، مما يُعطيها مساحةً أكبر من الانتشار بعد نشرها في عموده الصحفي، إذ تنتقل بعد ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي إما معها أو ضدّها. وقد كتب مرّةً: “عندما بدأتً بكتابة عمودٍ خفيف عامرٍ بالفكاهة، استأنس القُرّاء بما كتبتُ، ولكن كثيرين منهم تصوّرَ أنني مصريّ أو فلسطينيّ، وكانت مُفاجأةً كبيرة لهًم عندما اكتشفوا فيما بعد أنني عراقيّ، إذ لم يُعرف العراقيون بالفكاهة والظُّرف”. وقد ألّف القشطيني عدّة كُتب تروي حكايات عراقية طريفة تتميّز بالسخرية والتهكّم، من أمثال: “من شارع الرشيد إلى أكسفورد ستريت” و”أيام عراقية” وغيرها. ومن أبرز ما كَتب في هذا المجال كتاب “الظُّرف في بلدٍ عَبوس”، تميّز فيه المؤلّف بالقُدرة الفائقة على الغوص والرجوع إلى الجذور الأولى لأُصول الفكاهة، مُشابهاً في ذلك المؤرّخين في نقل صوَرٍ لكُتّابٍ وعُلماء وسياسيين وفنانين، اتّسمت بالمواقف الساخرة والكوميدية على درجات متفاوتة. كما أن الكاتب الصحافي العراقي “نوفل الجنابي” في كتابه: “الحِلّة.. عاصمة السخرية العراقية”؛ سجّل سخرية وفكاهة مدينة “الحلّة” العراقية التي اعتادت أن تُحوّل مصاعب حياتها وتقلّبات أيّامها إلى سخرية مُستمرّة، لم تتوقّف حتى في أحلك ساعاتها وأشدّه ظُلمةً. يقول “الجنابي” في مُقدّمة كتابه: “إن الحِلّة بسخريتها المُرة لم تَرِثْ لسانها الطويل من الأجداد البابليين، الذين “بلبل” الله ألسنتهم، بل صنعتهُ من قسوة أيامها ووزّعتهُ على أبنائها.. إن ما خلّفتهُ الألسن ولم تطوِه تلافيف النسيان، حاول هذا الكتاب أن يجمعهُ، مُعتمداً على ما اختزنته الذاكرة، الذاكرة فقط”.