بيت العود..

حديقة النغم في وسط الرياض.

أختلف إلى هذا المكان مرتين في الأسبوع، لأجد فيه الجمال متجسداً على أوتار العود الذي يتردد صداه في كل زاوية من هذا المكان البديع، وكأنك في كرنفال موسيقي مرتجل، تختلط فيه أنغام الموسيقى بتناسق وتمازج بديع مع أصوات الضحكات العفوية والأحاديث الجانبية بين أعضاء البيت على إيقاع خطوات المارة الذي يحمل كل واحد منهم آلته الموسيقية، ويحمل بين جنبيه أهازيج وترانيم تُعبر عن مشاعره وذكرياته ومخزونه العاطفي. أرى الأم التي جاءت بابنها ذي الإحتياجات الخاصة على كرسيهِ المتحرك لكي يكتشف مواهبة الفنية ويترجم أحاسيسه ويحقق جزءاً من ذاته من خلال الموسيقى. أرى الشاب الطموح المتطلع للمستقبل، يحاول أن يرسم طريق حياته من خلال الموسيقى ، أرى من هم في العقد الرابع والخامس بل والسادس من الجنسين يجمعهم حب الفن وشغف التعلم. هنا يجتمع نخبة من الفنانين الأكاديمين المتخصصين في تعليم العود، بطريقة أكاديمية وبمنهجية متفردة، وأسلوب خاص يتيح للمتعلم اكتشاف مساحات جديدة للتعبير الموسيقى على آلة العود. بيت العود لمن لا يعرفه، ليس مجرد معهد أو أكاديمية لتعليم الموسيقى، وإنما هو دار للثقافة والفن، وبيت خبره أُسس عام ١٩٩٨ م، على يد الموسيقار نصير شمه، الذي أنقذه فنه من حبل المشنقة ذات يوم، فنذر حياته لخدمة الفن، وآمن برسالة الفن المتسامية، التي تجمع الشعوب وتذيب الإختلافات بين الأمم، واليوم لدى بيت العود ستة فروع في أهم العواصم العربية آخرها الذي أفتتح في الرياض عام ٢٠٢٣ م. لقد كنت ـ أنا ومن هم في جيلي – نحلم بمثل هذا الصرح الثقافي الفني الذي يجمعنا كمحبين لآلة العود، حين كان العود محاصرا في ذاك المثلث الشهير بالحلة الذي يقع بين شوارع وسط الرياض الضيقة، وكان “محرماً” على محلات العود والآلات الموسيقية أن تمارس نشاطها خارج هذا المثلث، وكان الهواة يجتهدون لتعلم هذه الآلة الساحرة سماعيا يدفعهم إلى ذلك الفطرة السليمة التي تفهم لغة الموسيقى حتى وإن لم يتعلم المرء حروفها وتقنياتها تعليما أكاديميا. اليوم أرى هذا الحلم يتحقق، بل وأعيش تفاصيله، عشقت العود كغيري من أبناء جيلي في سن المراهقة، وعزمت على تعلمه، رغم التحديات الاجتماعية - التي ما زال البعض متمسكا بها - ورغم شح المعلومات، وقلة الفرص التعليمية. اليوم أعاد لي بيت العود الشغف القديم في التعلم واكتساب مهاراتٍ جديدة، أفرح بكل جملة موسيقية أتعلمها، تماما كما يفرح الطفل بتعلم حرف جديد من حروف الهجاء، أو كتابة جملة مفيده. أنه مشهد ثقافي حضاري، لم يكن ليتحقق، لولا أن قيّض الله لنا قيادة تستشرف المستقبل وتتفاعل بديناميكية مع المتغيرات الاجتماعية والمعرفية التي هي نتيجة حتمية لسيرورة الحياة وتطور الأفق المعرفي للمجتمعات البشرية بشكل عام ومجتمعنا السعودي العربي المسلم بشكل خاص، حيث تبنت القيادة رؤيةً ـ غير تقليدية – تهدف إلى دخول القرن الحادي والعشرين بكل كفاءة ومقدرة على التحدي والصمود أمام التنافس الدولي. أخيرا، عزيزي القارئ ، أكتب لك هذه المقالة من صالة الانتظار في بيت العود وأدعوك إلى زيارة هذا المكان المتفرد الذي ينبض بالفن وتلتقي فيه الأرواح المحبة للجمال.