خلّ الدرعا ترعى.
يُردّد بعض الناس عبارة: “خلّ الدرعا ترعى” في سياقات متعددة، يقصدون بها التغاضي عن الخطأ وتركه يمر دون تصحيح، بحجة تجنب الحرج أو الخوض في نقاش لا يرغبون فيه. وهذه العبارة في أصلها تعود إلى البيئة البسيطة، حيث كان الراعي إذا ترك إبله بلا ضبط قال: خلّ الدرعا ترعى، أي دعها ترعى حيث تهوى. غير أن نقل هذا المعنى إلى التعامل الإنساني والاجتماعي أحدث فجوة عميقة في الفهم، لأن الإنسان لا يترك لنوازعه كما يترك الحيوان في المرعى. فترك الخطأ دون تصويب يتحوّل مع الوقت إلى عادة، ثم إلى طبع، ثم إلى ثقافة عامة. الأب الذي يرى ابنه يخطئ ولا ينبهه، بحجة أن الزمن كفيل بتعليمه، يفاجَأ بعد سنوات بشخصٍ صعب التوجيه، لأنه تربّى على أن الخطأ لا يُنَبَّه عليه. والمعلم الذي يرى الطالب يستهين بالعلم ولا يضع له حدًا، يساهم دون أن يشعر في صناعة جيل هش أمام التحديات. والمدير الذي يتغاضى عن التقصير بدعوى الطيبة وحسن النية، يجد مؤسسته بعد حين قد اعتادت مستوى متدنٍ من الأداء، يصعب إصلاحه. وحتى في المجتمع، حين نرى سلوكاً خاطئاً في الأماكن العامة أو في منصات التواصل، ونقول: “ليس لنا شأن”، فإن هذا “الترك” بحد ذاته يصبح مساهمة غير مباشرة في انتشار السلوك نفسه. النقد البنّاء ليس تجريحاً، واللطف لا يعني الاستسلام، والرحمة ليست في ترك الإنسان يخطئ بلا توجيه، لأن الرحمة الحقيقية هي أن نأخذ بيد المخطئ إلى الطريق الأقوم. والإنسان مهما بلغ من النضج يبقى محتاجاً إلى من يُذَكره ويعينه على رؤية ما لا يراه في نفسه. فالتوجيه المسؤول هو أحد أشكال المحبة وحفظ الحقوق والعلاقات. وليس المطلوب أن نتحوّل إلى مجتمع متحفّز للانتقاد، فهذا غير صحي، كما أن التهاون المطلق غير صحي أيضاً. التوازن هو الحكمة: توجيه بقدر، واحترام في الخطاب، وعدل في الحكم، ووعي بالنتيجة. لا نُبالغ ولا نُهمل. لا نُشدِّد ولا نترك. بل نسلك طريقاً وسطاً يُحسن إلى الإنسان ويُهذب السلوك. إن دوام الصمت عن الخطأ لا يصنع تسامحاً، بل يصنع ضعفاً. وترك الأمور تمضي دون إرشاد لا يصنع نقاء، بل يصنع فوضى بطيئة تراكمية. والأمم لا تُبنى بالتمني، وإنما تُبنى بالمراجعة المستمرة والتربية الواعية والقدرة على قول: هذا خطأ، وهذا صواب. والزمن لا ينتظر أحداً. فإذا لم نُقوم اليوم ما لا يستقيم، فسنضطر غداً إلى إصلاح ما قد يكون أثقل وأصعب. إن المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية تفرض علينا أن نخرج من دائرة “خلّ الدرعا ترعى” إلى دائرة الرعاية الواعية. فالصلاح لا يولد من الإهمال، والوعي لا ينمو في بيئة صامتة. وكل فرد منا، في بيته، في مدرسته، في عمله، وفي مجتمعه، هو جزء من خيط واحد، إما أن يشده نحو الاستقامة أو يتركه يرتخي حتى ينقطع. والاختيار في النهاية مسؤولية، والنتائج لا تعود على غيرنا، بل علينا أولاً، ثم على من نحب .