توزيع الجهد.
تسير بنا الأيام في اتجاهاتها الأربع، وعبر فصولها الأربع، وداخل مربعها المجتمعي نسعى للتكيف والتعايش الذي يحقق لنا الاستقرار المادي والمعنوي، ويوفر لنا ما يعرف بالاكتفاء الذاتي . ومع هذا تجدنا لا نتوانى لحظة في “ طَرق “ أبواب الرزق،وامتطاء “ طُرق “ المعيشة ؛ بحثا عن سبل الراحة، والتزود مما يعين على نوائب الدهر . نعيد المحاولة إثر المحاولة، ونكرر التجربة بعد التجربة ؛ ليس خوفًا من الحاجة، بل حبًا في التملك . نريد تحقيق كل شيء، والاستحواذ على ما نعتقد أنه مكْمن السعادة ومحور السيطرة. ثم فجأة وبدون سابق توقع نجد أنفسنا نحاط بسور من التكاليف ؛ لنعلم حينها وصولنا لذروة المسؤولية وقمـة الالتزام . فنبدأ مرحلة هي (مرحلة) - إدارة - الأسرة واستلام دفة القيادة العائلية . وهي من أكثر مراحل الحياة تعقيدا ؛ لما قد يشوبها من قلق المستقبل وتوجس الغد عند الكثير ؛ فيجعلهم في سباق متقد وحركة لا تكاد تسكن . لا يسابقون الزمن، بل يكسرون عقارب الحكمة . ما نحتاجه اليوم بل يجب تملّـكه في ظل تصاعد مؤشرات النهم المستمر، والشهية المفتوحة أمام طاولة الحياة الممتدة، والسعي الدؤوب حول أطباقها المغرية هو ما يعرف بثقافة ومهارة “ توزيع الجهد “ . فحاجتنا لثقافة “ توزيع الجهد “ حاجة مُلحة وآمنة في شتى مناشط الحياة ومع امتداد مراحل الأيام . فهي لا تفقدنا السيطرة،بل تمدنا بالطاقة. تجعلنا نحافظ على مهارة الوصول ولياقة العودة. نحتاج لثقافة ومهارة “ توزيع الجهد “ حينما - نَخرج ونُخرج - كل قوتنا أثناء بحثنا عن الرزق والسبق ؛ لنصل بفضل هذه المهارة إلى السلامة من حالات الإعياء التي قد تعيقنا دون تحقيق الغاية والوصول إلى الهدف . وما أجمل قول الشافعي : ورزقك ليس ينقصه التأني وليس يزيد في الرزق العناءُ ما هية مهارة “ توزيع الجهد “ لا تتوقف عند حد مانسميه بالتفتيش عن لقمة العيش، بل إنها تتجاوز ذلك بمراحل. فنحن - مثلا - حينما - نخالط و نخاطب - الناس نكون أكثر حاجة لهذه المهارة ؛ فلا نسهب في الحديث ولانطيل حين نمسك زمام الكلام،وإذا بلغنا الغاية فلا نتكلف. ولنتذكر أنَّ “ أسوأ القول الإفراط “ كما جاء في حِكَم البشر . و كذلك نحاول الاعتدال في الزيارة “وتوزيع الجهد “ عند اللقاءات ؛ فذلك كفيل على المحافظة على معدل الكرامة . والعرب تقول في أمثالها : “ زر غبا تزدد حبا” وعندما تحركنا مشاعر الحب، وتهزّنا لحظات العشق وهذا شيء فطريٌّ لامناص منه ولاخلاص . ولكن بحدود “ لا إفراط ولاتفريط “ فالإسراف في الحب لا يرفعه رتبة، بل يحيله إلى عالم اللا وجود . وعلى هذا يتبين أهمية “توزيع الجهد “ حتى في الحب الذي يسكن - قلب - كل إنسان فينا . ثم للنظر إلى ماهو أبعد من ذلك في الأهمية والقيمة - وأعني - هنا العبادة التي هي جوهر الوجود، والغاية التي خلق الله الإنسان من أجلها ؛ وفقا لما جاء في قوله تعالى في سورة الذاريات : { وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } الآية 56. إذا تجاوزنا الحد فيها ؛ وصلنا إلى الغلو والتطرف و المبالغة فيما يتجاوز ما شرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - . ولكن عندما نتسلح بمهارة “ توزيع الجهد” في عباداتنا كافة نصل إلى الاعتدال والتوازن ؛ اللذان يحققان الديمومة والاستمرارية والسعادة. وقليل دائم، خير من كثير منقطع. وحين نوجه أنظارنا نحو الناجحين والمميزين في أعمالهم ووظائفهم نجد أنهم و بلا شك محط إعجاب من حولهم، ومضرب مثل لكل مهتم بعالم التميز والشهرة . ولو طرحنا سؤالا بسيطا عن سر نجاحاتهم المتتالية ؟ لكانت الإجابة : أنَّ خلف كل ناجح تقف مهارة “ توزيع الجهد “ لذلك لننظر لأفضل المهن بل منطلق كل المهن ( مهنة ) التعليم وحجر الزاوية في بناء الأمم . فنجد المعلم المتميز هو من يجيد لعبة إدارة الصف ؛ من خلال “ توزيع جهده “ أثناء حصته الدراسية ومع طلابه ؛ محققا ذلك عن طريق التخطيط المسبق، والتهئية المناسبة، والنجاح في إدارة الوقت، مع عدم إغفال عنصر التشويق في طرح الأسئلة وإجراء النشاطات المختلفة . وبهذا الأداء سيحافظ على براعة تميزه من أول يوم دراسي حتى آخر يوم ؛ لأنه يسير وفق رتم محدد، و طبقا لخطة واضحة . وإذا ما ذهبنا إلى طبقة رجال المال والأعمال البارعين في قيادة وإدارة أكبر الشركات العالمية لوجدنا هذه الثقافة تتجلّى لديهم، وإن كانت بطريقة أخرى تعرف بما يسمى “ تفويض المهام أو توزيع الأدوار ؛ لئلا يثقلوا كواهلهم بما لايطيقون، ورغبة منهم بأن يتخففوا من تخمة المسؤوليات العديدة، مما أسهم في النجاحات الكبرى لكافة المشاريع التي يقودونها . “ إيلون ماسك “ رجل الأعمال والتقنية المعروف والذي يعد من أثرياء العالم، لم تمنعه قيادة الكثير من المشاريع من بناء - فرق - قوية يقوم بتفويضها ( كإسناد ) لتعمل على تحقيق الأهداف الواعدة . وهو بذلك يرسل لنا رسالة مهمة ومحفزة مفادها أن “ توزيع الجهد “ ليس مجرد تفويض للمهام، بل إستراتيجية أساسية للابتكار والنمو والإزدهار . وفي مذكرات علي النعيمي وزير الدولة، ورجل النفط، وصانع القرار العالمي، وصاحب التجارب المفعمة بالقرارات والنجاحات والصولات والجولات نجده في كل - مهمة - يقودها يكسب الرهان حتى في أحلك الظروف . يتكلم عن إحدى تلك التجارب “ تجربته “ مع فريقه في شركة أرامكو أيام مهمة (حقل الشيبَة) المهمة التي حملت من المصاعب والعراقيل الكثير يقول : “ أمَّا أنا فآثرتُ أن أقصر دوري على إعطاء الثقة . ومن وقت لآخر كنت أقوم بزيارة فريق الشيبة لأقدم لهم التشجيع والتحفيز” وهذه رسالة أخرى وبالمجان لمن أرادوا صعود سلالم النجاح من وزير دولة ومحرك دول بعبقريته ونظرته الثاقبة في كيفية إدارة مسؤولياته وتوزيع مهامه . ثم إننا حين نُدير بوصلة مهارة “توزيع الجهد “ باتجاه العالم الرياضي فحينها “حدِّث ولاحرج” ؛ إذ أنها قانون ومهارة رياضية بحتة ؛ تبنى عليها الخطط الفنية داخل المستطيل الأخضر،ويعتمد عليها في القدرة على المنافسات الرياضية، كما أنها وسيلة يحافظ بها النجوم على تصاعد مستوياتهم الفنية، ويحمون أنفسهم من خطر إصابات الملاعب الطارئة . لذلك تجد أذكى اللاعبين وأميزهم من يقوم بتوزيع جهده أثناء دقائق المبارة ووفقا لمعطياتها وحسب ظروفها وأهميتها . أسطورَتَّي القدم العالمية “ ليونيل ميسي “ “ وكريستيانو رونالدو “ يعتبران المثال الحي والشاهِد المُشَاهد لأفضل من استطاع استثمار مثل هذه الثقافة والمهارة في حياتهم الرياضية ؛ مما أسهم في تربعهما لعرش الأفضلية لأكثر من عقدين من الزمن . إذا فخلاصة القول : “ توزيع الجهد “ مهارة وثقافة حياتية شاملة متكاملة متى ما استطاع الإنسان امتلاكها وتطبيقها في جوانب حياته المختلفة، وسخرها لتطوير مواهبه وهواياته ؛ فبلا أدنى شك سيصبح أكثر لياقة ولباقة، وأعظم عطاء وأنقى طباعا في أهله، ومجتمعه، ووطنه .