القشعمي كما يراه أصدقاؤه.

عندما يصلني كتاب عن الأستاذ محمد القشعمي، أشعر بأنني أمام عمل يستحق التوقف والتأمل، فله مكانة خاصة عندي. تعرفت عليه منذ أكثر من عقدين، وتعلمت منه الكثير، ونمت على يديه مهاراتي الكتابية. لا أنسى مزاملتي له في مكتبة الملك فهد الوطنية، خاصة أثناء تنفيذ برنامج التاريخ الشفوي للمملكة، تجربة أطلعتني عن قرب على هذه الشخصية الفذة التي سبقت غيرها في رصد تاريخنا الثقافي. كتاب «أبا يعرب ما أكثرك» من إعداد عبداللطيف العبداللطيف يوثق تجربة إنسانية وثقافية تستحق أن تُروى، ويأخذ القارئ في رحلة عبر محطات حياة القشعمي، مستعرضًا إنجازاته وشهادات من عرفوه وعملوا معه، لتتضح الصورة الكاملة عن رجل كرّس جهده لتسجيل تاريخ مجتمعه. في افتتاحية الكتاب يبرز اهتمام القشعمي بالتوثيق ودقته في حفظ تفاصيل المشهد السعودي، وقد كتبها الشاعر محمد العلي الذي وصف القشعمي قائلاً: «لم يخطر في بال ابن خلدون أن يرى تاريخًا لا تنمو فيه الأقوال كما قال منذ قرون، فها هو الأستاذ محمد عبدالرزاق القشعمي يحقق هذا النوع من التاريخ الذي لا يشبه ما عرفناه تاريخيًا من الرواية الشفهية...»، تقديرًا لدوره في كتابة تاريخ الأدب ورصد تحوّلاته بأسلوب يجمع بين العمق والموضوعية. ويظهر من كلمات العلي تقديره للقشعمي كمؤرخ أمين، بينما يقدّر القشعمي فكر العلي النقدي وإسهاماته في تطوير المشهد الثقافي، وتقوم هذه العلاقة على الاحترام المتبادل والتقدير الصادق لجهود كل منهما. يبدأ المؤلف الكتاب بمقدمة تؤكد حرصه على الحيادية وتجنّب المبالغة، رغم مكانة القشعمي في الأوساط الثقافية، مشيرًا إلى أن النسخة الأولى من الكتاب تضمنت عبارات ثناء رأى القشعمي ضرورة تهذيبها، فأعاد صياغتها وتنقيحها، ويوضح أن ما ورد هو توثيق لما قاله أدباء وباحثون عن القشعمي بإعجاب وتقدير، ويجمع أكثر من ثمانين مقالًا وخمسين تغريدة لمثقفين معروفين، مستبعدًا الألقاب الأكاديمية مراعاة لتواضع المشاركين. لم يحتوِ الكتاب على سيرة موسّعة، بل اقتصر على توطئة بعنوان: “القشعمي يستذكر”، سرد فيها أبرز المحطات والمناصب التي شغلها، مع إضاءة على اهتمامه المبكر بالشأنين الثقافي والاجتماعي أثناء عمله في مكتب رعاية الشباب بالأحساء منتصف عام 1975م، واستعاد ذكرياته عن تلك المرحلة التي شهدت توجيهات الأمير فيصل بن فهد – رحمه الله – بدمج النشاط الثقافي والاجتماعي ضمن الأندية الرياضية وربط الدعم المالي بمدى تفاعلها مع هذه الأنشطة. انتقل لاحقًا إلى منطقة حائل، حيث واصل نشاطه الثقافي بتنظيم لقاءات وفعاليات شارك فيها مثقفون وإعلاميون بارزون، وحظيت جهوده بتقدير رسمي إذ وجّه الأمير فيصل بن فهد خطاب ترقية تقديرًا لدوره الريادي في تفعيل النشاط الثقافي بالمناطق. بعد تقاعده عام 1994م، التحق بالعمل في مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض، مواصلًا حضوره في المشهد الثقافي عبر الكتابة الصحفية والمشاركة في الأندية الأدبية والمجالس الثقافية، وأسهم في برنامج التاريخ الشفوي بتوثيق شهادات أكثر من أربعمئة شخصية من رموز المجتمع، مثبتًا بذلك مكانته كأحد أبرز الموثّقين للتاريخ الثقافي السعودي الحديث. قسّم المؤلف الكتاب إلى تسعة أقسام تكاملت في رسم صورة شاملة لمسيرة القشعمي الفكرية والثقافية، تنوعت بين حوارات ومقالات وشهادات، من أبرزها قسم «حوارات ولقاءات ومؤتمرات» الذي ضم حوارات صحفية وندوات فكرية تناولت فكر القشعمي، مثل ملتقى مجلة العربي – السرد عند عبدالرحمن منيف وجمعية الفلسفة – الزمن الشفوي عند القشعمي. الأقسام التالية ضمت كتابات لأدباء ونقاد وإعلاميين عن تجربة القشعمي من زوايا مختلفة، مجتمعة لتوثيق حضوره الثقافي وأثره في المشهد الأدبي. كما استعرضت الأقسام اللاحقة مشاركاته العلمية في الداخل والخارج، واختُتم الكتاب بتوثيق الجوائز وحفلات التكريم التي نالها تقديرًا لعطائه الثقافي، مثل تكريمه في ثلوثية الأستاذ صالح بوحنيه عام 2006م، وجائزة الملك سلمان عام 2007م، وتكريمه في إثنينية عبدالمقصود خوجة عام 2014م. من بين الأقسام المميزة، قسم “تغريدات ورسائل قصيرة” الذي جمع عبارات وانطباعات موجزة عن القشعمي، لتفتح نافذة على مشاعره الإنسانية وأثره في الآخرين. كما احتوى الكتاب على مراسلات بينه وبين الكاتب والناقد عابد خزندار، تكشف عن عمق العلاقة الأدبية والإنسانية بينهما، والتقدير المتبادل لجهوده التوثيقية. إذن، نحن هنا أمام عمل يتجاوز حدود التوثيق إلى فضاء أرحب من الإلهام والوفاء، وينهي القارئ رحلته بين صفحاته وقد ملَكه إعجاب عميق بكل كلمة وكل شهادة عن القشعمي، ليبقى حاضرًا في وجدان الأجيال القادمة ويُقدّر إخلاصه في حفظ الذاكرة الثقافية وتوثيق تاريخ الأدب ورموزه.