عبد الواحد بن سعود .. من ميدان العرضة إلى القلوب.

تتهيّأ الأقدار، فتُعرّفنا بأناس ينثرون في دروبهم طيب الخُلق، وكرم العطاء، وصدق الموهبة، يقتربون من الجميع بقلوبهم، فيبادلونهم محبةً بمحبة، فكأن حضورهم وعدٌ بجمال لا ينقطع، والدكتور عبد الواحد بن سعود واحد منهم. ارتبط اسمه «بالعرضة» فتراه وهو يتقدّم لها، وكأنه يسير إلى ساحة روحه، يحمل في صوته نداء الأرض، وفي عينيه وهج القصيدة «فأبو متعب» لم أره مجرّد مؤدٍ شعبي، بل تجسيدًا لروح فن أدائي أصيل، يجمع بين الحماسة والعذوبة، وبين الجمال والبساطة، فأضحى اسمه مرادفًا «للعرضة» وصوته صدىً للفرح الذي يسكن الناس، كلما دوّى في الأفق إيقاع «الزير». تستشف من حديث له عن «العرضة» أنها ليست ترفًا، بل طريقة حياة يُعبر من خلالها عن الانتماء، ويستدعي بها ذاكرة المكان والناس، وكل بيتٍ من قصيدة يحمل رائحة الأرض، وكل حركة في أدائه تقول إن «القصايد» ليست ماضيًا يُروى، بل حاضرًا يُعاش. من بين ملامح مسيرته، تتبدى قدرته على تحويل «العرضة» إلى مساحةٍ للالتقاء الإنساني، تجمع الكبير والصغير، توحّد بين اللهجات تحت راية الفرح، وكأن صوته جسرًا بين الأجيال، وأداؤه درسًا في التوازن بين الأصالة والتجديد، ومع مرور السنين، لم يخفت صوته في ذاكرة الناس، بل ازداد حضورًا، لأن القلوب لا تنسى من أودع فيها أثرًا جميلًا. كان عبد الواحد صوت الجميع، إذ كثيرًا ما وظّف شعره في قضايا الناس وهمومهم، وكرب الزمان ومنعطفاته، فتنبثق مفرداته من الحياة اليومية، يعبّر عن مشاعره بصدق، وينقل نبضه دون تكلّف، مؤمنًا أن الشعر الحقيقي لا يعيش في برجٍ معزول، بل ينمو بين الناس ويعود إليهم، ولهذا بقيت كلماته قريبة من القلب، لأنها خرجت من قلبٍ صادق، يعرف وجع الناس وفرحهم. وبين كل بيت شعر وآخر، كان عبد الواحد يقدّم نموذجًا للشاعر الملتزم، الذي يرى في شعره وسيلة لبناء الوعي، لا مجرد وسيلة للمتعة أو الشهرة، وعلى الرغم من النجاح الذي حقّقه، ظلّ وفيًا لتقاليد العرضة، ومخلصًا لتراث وطنه، مؤمنًا أن الشعر الحقيقي هو الذي يخدم المجتمع ويعبّر عنه. آثر الاعتزال من قناعة صادقة تولّدت لديه، وشعور بالاكتمال، إيمانًا منه بأن للظهور مراحل، وأن العطاء لا يُقاس بطول البقاء، بل بصدق الأثر، موضحًا في أكثر من لقاء أن عودته - إن حدثت - لن تكون إلا في المناسبات الوطنية، أو فيما يخدم وطنه ومجتمعه، مما يدل أن الشعر عند «أبو متعب» رسالة انتماء قبل أن يكون حضورًا على المنصة، تلك الرغبة الناضجة بالابتعاد جاءت لتمنح مسيرته هدوءها الجميل، وتُبقي اسمه حاضرًا في القلوب، بقدر ما غاب عن «العرضة». يوم تكريمه، لم يكن المشهد احتفاءً بشاعر قدّم أداءً متميّزًا فحسب، بل كان احتفاءً بإنسانٍ ترك في كل من عرفه أثرًا من الطيبة والصدق، فالتفّ حوله محبّوه، وردّدوا اسمه بامتنان، كأنهم يردّون له بعضًا من الفرح الذي منحه لهم عبر السنين، فكان مشهد التكريم لحظة وفاء متبادلة بين إنسان ومحبيه، بين الميدان والقلوب التي أحبّته. الحديث عن عبد الواحد بن سعود ليس حديثًا عن شاعرٍ أو مؤدٍ فحسب، بل عن إنسانٍ صادقٍ في عطائه، نقيّ في محبته، قدّم فنه بصفاء النيّة ونُبل الهدف، يسير بخطى ثابتة، يزرع الفرح في الناس، ويترك في كل حضورٍ أثرًا من العذوبة التي لا تزول. وهكذا، يبقى عبد الواحد بن سعود علامةً مضيئة في ذاكرة القصائد الشعبية، وصوتًا صدح بالصدق، جسّد بروحه معنى الوفاء للأرض والناس والتراث.