حتى لا نفقد ذاكرتنا الوطنية..

من ينقذ أرشيف الصحف الورقية؟

في المدينة المنورة، وبين جدران مقهى “حبر الثقافي” الذي اعتاد أن يحتضن النقاشات الثقافية والأدبية، ألقيت محاضرة عن تاريخ الصحافة في المدينة برعاية من الشريك الأدبي في هيئة الأدب والنشر والترجمة. لم يكن الحديث مجرد استرجاع لمحطات ماضية، بل رحلة عبر الزمن، تعيدنا إلى بدايات الكلمة المطبوعة على هذه الأرض الطيبة، تحدثتُ عن أولى الصحف التي رأت النور في المدينة؛ عن “الرقيب” ”المدينة المنورة”، وعن “الحجاز” التي مثّلت صوتًا سياسيًا وعسكريًا، ثم عن النهضة الصحفية الكبرى التي انطلقت مع توحيد المملكة بقيادة الملك المؤسس عبدالعزيز – طيب الله ثراه – لتبدأ معها مرحلة جديدة من الوعي والمعرفة، قادها مثقفون بارزون من أبناء المدينة أمثال عبدالقدوس الأنصاري، وعثمان حافظ، وعلي حافظ، ومحمد حسين زيدان، وأمين مدني وغيرهم من روّاد الكلمة والوعي. ‎كانت مجلة المنهل التي أسسها عبدالقدوس الأنصاري في ذي الحجة عام 1355هـ، وجريدة المدينة التي صدر عددها الأول في المحرم عام 1351هـ تحمل على صفحتها الأولى صورة الملك عبدالعزيز – كأول صورة لملك سعودي تظهر في صحيفة محلية – دليلاً على أن الكلمة في المملكة منذ بدايتها ارتبطت بالقيادة والرؤية وبناء الإنسان. كانت تلك البدايات تؤرخ لميلاد صحافة واعية، تشكلت على يد مثقفين أدركوا أن الصحافة ليست مجرد وسيلة نشر، بل وثيقة حضارية تحفظ ملامح الزمن وتحكي قصة التحول الوطني. ‎لكن السؤال الذي طرحه أحد الحضور بعد انتهاء المحاضرة ظل يرنّ في ذهني طويلاً، طرحه الصحفي الأستاذ سعد الحربي متسائلاً: أين أرشيف تلك الصحف اليوم؟ من يحفظ ذاكرتها؟ كان سؤاله بسيطًا في ظاهره، لكنه يحمل جوهر الإشكال الحقيقي الذي تواجهه الصحافة الورقية في المملكة والعالم العربي، وهو غياب الأرشفة الشاملة والمنهجية التي تضمن بقاء هذا التاريخ حيًا ومتداولًا. فكل صحيفة هي شاهدٌ على مرحلة، وكل عدد منها جزء من الذاكرة الجماعية التي لا يجوز أن تضيع بين الغبار أو تتلاشى مع التحول الرقمي السريع. ‎لا يمكن الحديث عن الأرشيف الصحفي في المملكة دون الإشادة بالدور الكبير الذي تقوم به دارة الملك عبدالعزيز، التي بادرت مشكورة إلى أرشفة كاملة لصحيفة أم القرى، أول صحيفة رسمية في المملكة، وصحيفة صوت الحجاز، التي مثّلت منبرًا ثقافيًا واجتماعيًا مهمًا في الثلاثينيات الميلادية. فقد صدر العدد الأول من “أم القرى” في 15 جمادى الأولى عام 1343هـ (12 ديسمبر 1924م)، لتكون منذ بدايتها صوت الدولة الرسمي، ومرجعًا للتاريخ السياسي والاجتماعي للمملكة، إذ وثّقت المراسيم الملكية والبلاغات الرسمية منذ عهد الملك المؤسس. أما “صوت الحجاز”، التي صدر عددها الأول في 27 ذي القعدة عام 1350هـ (4 أبريل 1932م)، فقد حملت روح المجتمع المكي والمدينة الثقافية المتوهجة آنذاك، وأسهمت في صياغة المشهد الفكري الوطني المبكر. ‎أشارت الدارة في منشور لها على منصة تويتر إلى أن رقمنة هذين الأرشيفين يعكس التزامها بتعزيز التحول الرقمي في مجالات التوثيق والمعرفة، ودعم الباحثين والأكاديميين في دراسة التاريخ السعودي والخليجي والإسلامي، عبر بوابة رقمية حديثة أصبحت من أهم المنصات المرجعية في هذا المجال. إلا أن التساؤل المشروع يظل قائمًا: ماذا عن أرشيف المؤسسات الصحفية الكبرى الأخرى في المملكة؟ أين هو اليوم؟ وأين تحفظ الأعداد القديمة التي وثّقت ملامح الحياة السعودية على مدى عقود؟ ‎إن الحفاظ على أرشيف الصحف ليس ترفًا فكريًا، بل مسؤولية وطنية تمسّ جوهر الذاكرة الجماعية. فالصحف – كما يُقال – هي “المسودة الأولى للتاريخ”، تسجل نبض الشارع وتوثق التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية كما عايشها الناس في لحظتها. إنها المرآة التي يرى فيها المؤرخون المستقبل كما عاشه الماضي. ولذا فإن فقدان أرشيفها يعني فقدان أحد أهم المصادر التاريخية التي يمكن من خلالها قراءة تطور الوعي السعودي منذ بدايات الدولة حتى اليوم. ‎الحفظ الرقمي لا يقل أهمية عن الحفظ الورقي، بل هو الضامن لاستمرار الوصول إلى هذه الكنوز المعرفية دون تعريض الأصول للتلف أو الضياع. إن العالم من حولنا يدرك هذا الدور، وتُعد المكتبة البريطانية مثالًا لافتًا، إذ تضم أكثر من ستين مليون صحيفة منذ عام 1619 حتى اليوم، محفوظة في بيئة خالية من الأوكسجين لمنع الحرائق، ورغم عقود من العمل لم يتمكنوا إلا من رقمنة 5% منها، وهو ما يوضح حجم الجهد الهائل الذي يتطلبه هذا النوع من المشاريع، لكنه في الوقت ذاته يعكس إيمانًا راسخًا بأن الحفاظ على الذاكرة لا يقل أهمية عن صنعها. ‎في المملكة، ومع التحول الكبير الذي تشهده المؤسسات الثقافية والإعلامية، تبرز الحاجة الملحّة إلى مشروع وطني شامل لحفظ الأرشيف الصحفي، يشمل الصحف الثمان الكبرى التي صنعت جزءًا من تاريخ المملكة الحديث، وتعاونٍ مؤسسي بين الجهات الحكومية والجامعات والمكتبات الوطنية والقطاع الخاص. يمكن للمؤسسات الصحفية أن تسهم في هذا المسار بنشر أرشيفها القديم وإتاحته للباحثين عبر اشتراكات رمزية أو شراكات مع المكتبات الأكاديمية. فالذاكرة لا تُقدّر بثمن، لكنها لا تحيا إلا إذا أُتيح لها أن تُقرأ وتُستعاد. ‎إن مبادرة هيئة الأدب والنشر والترجمة في دعم الوعي الثقافي وتنظيم مثل هذه الفعاليات في المدينة المنورة تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح، لأنها تفتح الباب للنقاش حول قضايا ظلت حبيسة الرفوف لسنوات. لكن المرحلة المقبلة تحتاج إلى تفعيل الشراكات بين المؤسسات الثقافية والإعلامية، وتبنّي مشروع وطني شامل لإنقاذ أرشيف الصحافة السعودية قبل أن يبتلعه النسيان. فكل صحيفة هي وثيقة، وكل وثيقة هي ذاكرة، ومن يضيّع ذاكرته يغامر بتاريخه ومستقبله معًا. ‎إن إنقاذ الأرشيف الصحفي ليس مجرد عمل تقني، بل هو فعل وفاء لتاريخ طويل من الحبر والكلمة، ومن أصوات الصحفيين الأوائل الذين حملوا همّ الكلمة ومسؤولية الحقيقة. إنها مسؤولية الجيل الحاضر تجاه جيلٍ كتب لنا التاريخ، لئلا نكتبه نحن من الذاكرة المبتورة. ومن هنا يبقى السؤال مفتوحًا: من ينقذ أرشيف الصحف الورقية قبل أن يختفي؟