وما أدراك ما المعنى!!
بين غموضٍ في الشعر كالليل البهيم, ووضوحٍ مسطحٍ كالجادة في رابعة النهار, تظلّ جذوة الجدل حول المعنى تخبو حينًا وتشتعل أحيانًا، بين متلقٍّ همّه الظفر بالمعنى ومعنى المعنى, وقد حمل لواء المطالبة بفهم ما يقال، كونه قد قيل بلغة البيان والفصاحة. وبين شاعرٍ متبرّمٍ ممتعض قد ضاق بمن يلحّ في سؤاله عن المعنى في شِعرِه بُغيَة فهمه. الشاعر الهندي طاغور, كان قد أفصح عن ارتباكه أمام من يسأل عن المعنى، مشبهًا الجمال الذي ننفعل به في الشعر بشذا الزهرة، وبالطبع من غير المعقول السؤال عن شذا الزهرة أو محاولة فهمه. وكأنه يقول حتى لو شرّحنا الزهرة لن نفهم شذاها. وإذا كان الجاحظ قد قال عرَضًا المعاني مطروحة في الطريق, فقد قيل أيضًا عرَضًا “ المعنى في بطن الشاعر”.. يروي الأصمعي أن أحد الشعراء قصد خياطًا أعور, اسمه زيد, طالبًا منه أن يصنع له ثوبًا، فقال الخياط سأصنعه لك على نحوٍ لا تعرف إن كان ثوبًا أم قباء، يعني عباءة. فما كان من الشاعر إلا أن وعده بدوره إن فعل, بأن يقول فيه شعرا لا يعرف هو ومن سمعه إن كان يمدحه أو يهجوه.. وحين أتاه بالثوب ووجده كما وعد، وفّى هو أيضًا بوعده وقال: خاط لي زيد قباء ليت عينيه سواء فاسأل الناس جميعا أمديحا أم هجاء فما عرَفوا إن كان يدعو له بشفاء العوراء, أم يدعو عليه بلحاق الصحيحة بالعوراء.. فقالوا: “ المعنى في بطن الشاعر”, ثم جرت مجرى المثل. واختلف مردّدوا هذه العبارة, وكذلك سامعوها, بين من يرى المقصود ببطن الشاعر جوفه, وبين من يذهب إلى أنّ المقصود هو ما يُبطنه الشاعر أي يُخفيه خفاء بطانة الثياب, ومنه بطانة الرجل خلصاؤه المتصلين به من الداخل. لو كان المعنى موجودًا في بطن الشاعر, أو حتى في مخيّلته, ما رأينا شاعرًا كالثبيتي يمضي إلى المعنى, وفي رحلة البحث عنه يقول: “ أمضي إلى المعنى.. وأمتصّ الرحيق من الحريق فأرتوي” “ أمضي إلى المعنى, وبين أصابعي تتعانق الطرقات والأوقات”. ما يعني أنّ المعنى هو محصلة جهد واشتغال على الشكل والمضمون, هو أقرب ما يكون للرؤية الكلية. وليس المقصود بالمعنى هنا معاني المفردات, لأنّ المفردة في الشعر تستمدّ معناها من سياقها الشعري بغض النظر عن معناها المعجمي. حقيقة أعجبني بل أطربني استحضار طاغور للزهرة, شكلها وشذاها كلاهما جميل, وينبغي أخْذُهما معًا دفعة واحدة, وهي تشبه بالفعل النفيس من الشعر, الذي إذا مضيت تبحث عن معناه لكي تفهمه قد تفسده. خذ كمثال قول المتنبي: نحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ أطويلٌ طريقنا أم يطول وكثير من السؤال اشتياقٌ وكثيرٌ من ردّه تعليلُ مثل هذه الباقة الجميلة عليك أن تأخذها كما هي, لأنك قد تهشمها وتتلفها إذا فكّكتها باحثًا عن المعنى الذي انطوت عليه, في محاولة لفهمها.. أدهشني أحد أصدقائي الشعراء عندما عبّر عن فرط إعجابه بهذين البيتين قائلًا: “ ثمّة أشياء في غاية الجمال, تتمنّى لو بإمكانك أن تأخذها معك للآخرة, وهذان البيتان من تلك الأشياء الجميلة التي ـ للأسف ـ سنتركها خلفنا”. قطعًا ليس في ما تقدم أيّ امتداحٍ للغموض السلبي, أو دعوة للتعمية, وإنّما مدار القول هنا على الغموض الإيجابي, الذي هو جزء من روح الإبداع الشعري, والذي من شأنه أن ينأى بالشعر عن المباشرة والوقوع في التقريريّة الفجّة. يقول المتنبي: وللسّرِّ مني موضعٌ لا يناله نديمٌ, ولا يُفضي إليه شرابُ