الرسم.. ترجمة لجوهر الإنسان بلا زخارف.

الإنسان كائن لا يطيق الصمت طويلاً، كائن تتزاحم في داخله الأفكار و المشاعر التي لا تهدأ إلا لحظة تعبيره عنها و إعطائها أبعاد أخرى، فيغزل من فرحته قصيدة سعيدة مسطورة على أوراق مذكراته، و يصنع من حزنه لوحة يكسوها السواد و الغموض، و يتعامل مع تناقضاته الداخلية بترتيب تلك الأوراق المتراكمة على سطح مكتبه، و يأخذ بيد أمانيه إلى سجدة بين يدي من خلق فيه جل هذه الأحاسيس. بالصمت و الحديث، بالكتابة و الرسم، بالدعاء و الصلاة، يترجم كل إنسان ما يكمن في جوهره في محاولة منه لفهم ذاته على حقيقتها بلا زخارف، و من ثم لمشاركة هذه المشاعر مع غيره ممن يشابهونه على الصعيد الفكري. بالنسبة للرسم، فهو أحد أقدم وسائل التعبير الإنساني، حيث استعمله البشر للتعبير عن معتقداتهم و أحاسيسهم قبل ظهور الكتابة بآلاف السنين. كلمة فن (Art) يعود أصلها إلى الكلمة اللاتينية (Ars) و التي تعني المهارة أو الصنعة، و قد اختلفت مفاهيم الرسم و تنوعت استخداماته على مر العصور. على سبيل المثال، تم في عام ١٩٤٠ م اكتشاف رسوم و نقوش كهف لاسكو في جنوب غرب فرنسا، و الذي يعد أحد أهم الكهوف الأثرية ذات الرسوم الجدارية، و هذه الرسوم تعود إلى العصر الحجري القديم الأعلى و تحديداً إلى ثقافة الماغدلينيين، الذين نقشوا مشاهداً من حياة الإنسان القديم كتلك المتعلقة بالصيد. أما في العصور القديمة، فقد استخدم الرسم لزخرفة المقابر في مصر القديمة، كما استخدم لرسم التشريح الدقيق للجسد البشري في اليونان و روما. مروراً إلى العصور الوسطى، حين استخدم الرسم في تزيين المخطوطات الدينية، و من بعدها عصر النهضة الذي ظهرت فيه ثورة كبيرة في عالم الرسم و ارتباطه بالعلم و دراسة الضوء و التشريح، وصولاً إلى العصر الحديث الذي ظهرت فيها مدارس فنية عديدة مثل التعبيرية و السريالية و التجريدية. أما الفن المعاصر، فيتميز بطابع أكثر حرية و سلاسة، كما أن مفاهيم الرسم قد تغيرت كثيراً في هذا العصر نظراً لتواجد الأدوات و الوسائل الرقمية التي مهدت الطريق أمام الرسامين من هواة و محترفين لترجمة الفن الذي يكمن في دواخلهم بشتى الطرق. بين الماضي و الحاضر فروقات عديدة تواجدت في مجال الرسم، فقد كان البشر في العصور القديمة يصنعون الألوان بأنفسهم من الفحم و النباتات و الدم و الطين و المعادن أحياناً، و يستخدمون العصي الخشبية و ريش الحيوانات لتنفيذ الرسومات، في سبيل توثيق عادات حياتهم اليومية و طقوسهم المختلفة. أما اليوم، فقد اشتهرت البرامج الرقمية التي تمكن الرسام من تغيير اللون بضغطة زر، و كذلك الأقلام الرقمية و شاشات اللمس، في سبيل التعبير الفني بالإضافة إلى أهداف ربما لم يستخدم الرسم في خدمتها سابقاً، كتلك التي تتمحور حول التسويق و التعليم و الترفيه. رغم هذه الفروقات الشاسعة إلا أن الرسم ما زال فناً مرتبطاً بالتعبير عن الذات و تجسيد الجمال و إطلاق العنان للإبداع في كل زمان و مكان و عبر جميع الأجيال و الحضارات. قبل أن يكون الرسم متعلقاً بالفن و الإبداع، كان متعلقاً بتريتب فوضى المشاعر الكامنة في العقول و القلوب. فالرسم ممارسة لا تتواجد فقط لخدمة الناس على الصعيد الفني و إعطائهم مساحة للتعبير عن امتداد أرواحهم، بل له فوائد و منافع عديدة على الصعيد الصحي و النفسي، فقد أثبتت الدراسات المتعلقة بعلم الأعصاب أن الرسم يحفز كلاً من النصف الأيمن من الدماغ و هو المسؤول عن الإبداع و الفن و الخيال، بالإضافة إلى النصف الأيسر من الدماغ و هو المسؤول عن المنطق و التنظيم و الاستدلال، مما يجعل من الرسم عملية عصبية معقدة يتم من خلالها تنشيط مناطق متعددة في الدماغ. علاوة على ذلك، فالرسم مرتبط أيضاً بخفض نسبة هرمون الكورتيزول في الجسد و هو الهرمون المسؤول عن التوتر و القلق، مما يساهم في تحسين المزاج و خلق حالة من الراحة و الاسترخاء. بالإضافة إلى منافع أخرى عديدة كقدرة الرسم على تعزيز مراكز الذاكرة و تقوية مهارات الملاحظة و تحسين التطور الإدراكي خاصة عند الأطفال. لذلك، الرسم بلا شك ليس نشاطاً جانبياً لأوقات الفراغ فقط، بل حجراً أساسياً في تعزيز قدرات من يمارسه على الأصعدة الإدراكية و الصحية. و كما أسهم الباحثون العلميون في دراسة الرسم و ما ينتج عنه من منافع متعلقة بتهدئة النفس و تنشيط الدماغ، فقد شارك الأدباء و الشعراء في إثراء المكتبة الثقافية المتمحورة حول هذه الممارسة الإبداعية و ربما من زواية أعمق، فقد رأوا فيه مرآة للروح البشرية و انعكاساً لكلمات تدور في البال و ترجمة لمشاعر تكمن في القلب. بعض أشهر الرسامين هم بأنفسهم من سطروا أجمل العبارات بخصوص الرسم، منهم على سبيل المثال العالم المتعدد المجالات والرسام الإيطالي الشهير ليوناردو دافنشي و الذي قال: “الرسم هو الشعر الذي يُرى و لا يُسمع، و الشعر هو الرسم الذي يُسمع و لا يُرى.” كما قال الرسام و الفنان التشكيلي الإسباني بابلو بيكاسو: “الرسم يمسح غبار الحياة عن الروح.” أما المفكر اللبناني ميخائيل نعيمة فقد قال عبارة شاملة تحمل في كلماتها فكرة عميقة عن جوهر الفن بكافة معانيه، واصفاً الفن بأنه إحساس و تفسير للعالم و ليس مجرد تقليد لما يدور حولنا، هذه العبارة تقول: “ليس الفن ما نصوره، و لا الشعر ما ننظمه. بل الفن أن ندرك بأرواحنا ألفة الحياة فنؤلف ما بين أفكارنا و منازعنا و أقوالنا و أعمالنا حتى لا يبقى فينا من نقيض يناهض نقيضاً.” الرسم كان جزءاً أساسياً من الحياة منذ العصور القديمة، و وسيلة لتخليد الحضارات و المعتقدات و الإنجازات، و سيظل هذا الفن في خدمة الإنسان على مر العصور و يجود عليه بجل منافعه و يكون جسراً يربط بين ماضيه المفعم بالتجارب و مستقبله المفعم بالآمال في حالة تواجد شرط بسيط في معناه لكن عظيم في جوهره، ألا و هو أن يحسن الإنسان استعمال فن الرسم، و أن يضع له في قلبه مواضع الاحترام و التقدير لهذه الأداة القوية و يحتضنها بوعي و حنكة، لتبقى هذه الأداة في خدمة تلك الروح التي احتوتها. الرسومات، و إن كانت زخارف في حد ذاتها، لن تلامس الأرواح إلا إذا انبثقت من روح صادقة ترجمت جوهرها على حقيقته، بلا أي زخارف مزيفة.