حدّ التناهي!

يعتمد الوعظ على اقتناص الفرص السانحة للدخول إلى النفس التي قد تغلق منافذها حين يقصد إليها الواعظ قصدًا، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يتخوّل بالموعظة، وفي التخوّل معنى من معاني اقتناص النفوس في لحظات إقبالها، والواعظ العابر أقدر على جذب النفوس من الواعظ الدائم، ولهذا فأخطر ما يواجهه الخطاب الوعظي أن يتحوّل إلى صوت دائم، متصل، يقرع الأذن باستمرار، أو تتلقاه النفس بشكل دائم، لأن ذلك مدعاة لفقدان التأثير وتحوّله إلى خطاب اعتيادي لا ينبّه غافلا ولا يوقظ نائما، وقد أشار ابن جني إلى “أن المرء إذا تناهى في الضحك بكى، و إذا تناهى في الوعظ غفل”. وفي مواقع التواصل بلغ الأمر حدّ التناهي في كل شيء: الوعظ، المعرفة، السرد الكتابي والشفاهي، الشعر فصيحه وعامّيّه، الشيلات والأغاني، التمثيل والفلكلور، فلم يبق حقل لم يبلغ هذا المبلغ من السيولة الفائضة عن الحاجة، حتى صار العالم كلّه في حاجة إلى التحوّل بعد التخوّل، تحوّل جديد في الوسائل والتقنيات تخففُ من هذه الحداثة السائلة والمعرفة التي بلغت حد التجشّؤ والشَّبَع، وتوقفُ دوران ماء النافورة الذي صار يعيد نفسه باستمرار، فلم يعد أحد يضيف شيئا جديدا لأحد، إذ كل ما يقال قد قيل من قبل، فالكلام يركض داخل نفسه، والعالم يعيد ذاته بطريقة مستنسخة لا تتغير فيه سوى تنويعات على الصياغة.