تأزمات الفلسفة 2-2

١-هايدغر: التحيز اليوناني لم يعن هايدغر بالتأزم من حيث هو تأزم علوم إنسانية، وإنما من حيث هو تأزم للفلسفة نفسها في عالم فقد صلته بالوجود أو الكينونة، والعالم المقصود هو بالطبع عالم أوروبي يمد جذوره لليونان في المقام الأول، تماماً كما هو الحال عند أستاذه هوسرل. ذلك هو الانشغال الأساسي في فلسفة هايدغر، لكن ذلك لم يعن عدم اهتمامه بوجوه أخرى من التأزم الحضاري الغربي. غياب الإله كان دون شك أحد تلك الوجوه الكبرى، وفي تعليقه على مقولة موت الإله عند نيتشه يقول هايدغر: في عبارة “مات الإله” يمثّل اسم “إله” من الناحية الأساسية العالم المتجاوز للحس، عالم تلك المثل التي تتضمن الهدف الذي تسعى إليه الحياة الأرضية والموجود خارج تلك الحياة، والذي، نتيجة لذلك، يحدد الحياة من الأعلى، وبمعنى من المعاني، من خارجها. ويسارع هايدغر ليوضح بأن تناقص الإيمان بالإله لا يعني في حد ذاته أن وظيفة الإله قد اختفت أيضاً: “في مكان سلطة الإله التي توارت وفي وظيفة التعاليم الكنسية تحل سلطة الضمير، وتقتحم سلطة العقل”. سلطتا الضمير والعقل لم تكونا وحدهما بطبيعة الحال وإنما انضمت إليهما سلطات كثيرة أخرى تمثل قيماً أو مثلاً عليا منها: العلم، الفن، الحرية، والفلسفة نفسها، إلى جانب أخريات ليس الهدف هنا تعدادها وإنما التعرف على علاقتها بالتأزم الحضاري. في تحليله لتاريخ الفلسفة من حيث هي مفهوم وحقل ضخم من حقول المعرفة يشير هايدغر إلى أنها انحرفت عن دلالتها أثناء العصور الوسطى نتيجة للفكر اللاهوتي وأنه حان الوقت لاستعادة مفهومها الأصلي وهو المفهوم اليوناني. المشكلة كما يقول هي أن الطبيعة اليونانية أساساً للفلسفة في فترة هيمنتها الأوروبية الحديثة انقادت للمفاهيم المسيحية وخضعت لسيطرتها. وكانت العصور الوسطى هي الوسيط لتلك السيطرة. وفي الوقت نفسه فإن المرء لا يستطيع أن يقول إن الفلسفةأصبحت مسيحية، أي إنها أصبحت مسألة اعتقاد بالوحي وبسلطة الكنيسة. كانت تلك لحظة اختناق للفلسفة في رأي الفيلسوف الألماني، لا تختلف في عمقها عن تلك التي تصدى ديكارت لمعالجتها حين أراد إيقاظ الفلسفة من سباتها الطويل في القرن السابع عشر. الفرق هو أن الفلسفة هنا فقدت هويتها الأصلية، الهوية اليونانية، وأن الوقت حان لاستعادة تلك الهوية. لكن البحث عن تلك الهوية والوعي بالاختناق لم يصل عند هايدغر أو غيره فيما يبدو كما وصل عند إدموند هوسرل، فيلسوف الظاهراتية وأستاذ هايدغر قبل أن يفترق الاثنان عند مجيء النازية فيُنفى الأستاذ اليهودي الجذور من بلده ألمانيا ويحل التلميذ محله. وجه آخر من وجوه التأزم أو القلق الفلسفي عند هايدغر يتصل بما حصل للفكر نفسه، وهو الفكر الفلسفي بطبيعة الحال. في “مقال حول الإنسانوية” يتوقف الفيلسوف الألماني عند العلاقة التي ربطت الفكر بالتقنية. “الفكر”، يقول هايدغر، “هو الانشغال (l’engagement) بحقيقة الوجود ومن أجل تلك الحقيقة”، وليس بالممارسة أو الجانب العملي. “الفكر، حين ينظر إليه بحد ذاته غير عملي”، لكن ربطه بالجانب العملي جعله في موقع الدفاع عن النفس: “منذ ذلك الحين و’الفلسفة‘ في مأزق مستمر هو مأزق تبرير وجودها أمام ’العلوم‘“. تعتقد الفلسفة أن قدرتها على التأثير مرتبطة بتحولها إلى علم، “لكن تلك المحاولة تعني التخلي عن جوهر التفكير”.  يرى هايدغر أن انتهاء الفلسفة هو في تحولها إلى مادة دراسية أو تعليمية، حين يتخلى الفكر عن “عنصره”، أو مكونه الأساسي، حقيقته، “يصير أداة للتعليم فيتحول نتيجة لذلك إلى مادة للفصل الدراسي وبعد ذلك مسألة ثقافية... يتوقف المرء عن التفكير بل يملأ نفسه بـ’الفلسفة‘“. ويعزو الفيلسوف الألماني ذلك إلى “دكتاتورية القطاع العام الذي يفرض مسبقاً ما هو مفهوم وما ينبغي رفضه من حيث إنه غير مفهوم”. هي ما يعرف بعقلية القطيع إذاً، الانسياق وراء ما يراه الآخرون فتتراجع الفلسفة بوصفها الفكر الحقيقي. وفي نهاية المطاف، فإن أزمة الفلسفة جزء من أزمة الوجود الكبرى، أزمة العلاقة بما يسميه هايدغر “الدازاين”، وهو مفهوم شديد التركيب، لكنه يتضمن الوجود الإنساني، الوجود الذي يرى الفيلسوف أنه متوارٍ وأن مهمة الفلسفة هي إظهاره. في إحدى تعريفاته الكثيرة للفلسفة يقول: “الفلسفة هي التواصل مع وجود الوجود [being of Being]” لكن حين تخضع الفلسفة نفسها لتطورات التقنية والمتطلبات العملية فإن ذلك التواصل يصبح بعيد المنال. مشكلة هايدغر مع التقنية هي أيضاً مشكلته مع العلوم، الطبيعية منها في المقام الأول، وازدهار العلوم مرتبط بتراجع الميتافيزيقا، أي بتغليب العالم الإمبيريقي والمنهج العلمي التجريبي على حساب ما هو غيبي أو غير قابل للمعرفة العلمية. وأيا كان المقصود بالميتافيزيقا هنا (فقد تكون الغيبيات الدينية أو المجردات الفلسفية) فإن علاقة هايدغر باللاهوت والرؤية الدينية علاقة ملتبسة، كما يرى بعض دارسيه. تربية هايدغر الدينية الكاثوليكية التي هيأته للترسيم قسيساً ثم رسالته للدكتوراه حول مسائل لاهوتية، وأخيراً محاضراته في عشرينيات القرن العشرين حول فينومينولوجيا الدين التي جمعت في كتاب بنفس العنوان، كل ذلك شكل مادة ضخمة للباحثين حول موقف هايدغر من الدين. ما يتضح من بعض المعالجات النقدية لموقف هايدغر هو أن الدين مثّل له أزمة سعى إلى التعامل معها بصورة ما، فقد ورث عالماً بلا إله، عالماً معلمناً بالمعنى الثاني للعلمنة كما تناوله المفكر العربي المصري عبد الوهاب المسيري باسم “العلمانية الشاملة” وتوقف عنده الفيلسوف الكندي تشارلز تيلر من حيث هو غياب تام للإله. فإذا كان المعنى الأول، الشائع، هو الانفصال بين الدين والمؤسسات العامة (العلمانية الجزئية عند المسيري)، فإن المعنى الثاني يتصل بما يسميه تيلر “الفضاءات العامة”. تلك الفضاءات، يقول تيلر، “أفرغت كما يقال من الله، أو من أي إشارة إلى واقع أعلى...” لكن تلك الفضاءات العامة، كما سيقول تيلر في كتابه أيضاً، لم يفرغ تماماً من الإله أو الدين، وهو الوضع الذي سعى هايدغر وغيره من مفكري الغرب إلى التعامل معه، وكان التأسيس الثقافي والاجتماعي لهايدغر دافعاً للبحث عن صيغة ما. إحدى الدراسات لموقف هايدغر من الدين أو من المقدس “توضح كيف يتحدث هايدغر عن ’شعر الدين‘، أي علاقة الإنسانية بالمقدس، والكيفية التي يصير بها تفكير هايدغر في نهاية المطاف فكراً لاهوتياً”. ومن ناحية أخرى يرى باحثون آخرون أن هايدغر نزع نحو التصوف في النصف الثاني من حياته واشتغالاته الفكرية. يقول أحد أولئك الباحثين إن هايدغر، “بصفة خاصة منذ منتصف حياته، طور نوعاً خاصاً من التصوف يمكن فهمه في سياق التقاليد النقدية للأنماط السابقة من التصوف الديني”. في كل الحالات ظل موقف هايدغر تجاه المقدس الديني ملتبساً ومجالاً خصباً من ثم للتأويل. ومن الأمثلة على ذلك إجابته لسؤال وجهته له مجلة “دير شبيغل” الألمانية الشهيرة في 23 سبتمبر 1966 ولكنها لم تنشر، بناء على طلبه، إلا بعد وفاته بخمسة أيام، أي في 31 مايو 1976. ويعود ذلك إلى أن هايدغر تحدث في المقابلة عن علاقته بالنازية واليهود. لكن ما يهمنا في هذا الموضع هو موقفه من الدين أو المقدس الغيبي. يسترعي الانتباه بقوة في تلك المقابلة عنوانها: “لا ينقذنا إلا إله”. كان سؤال المجلة عن دور الفلسفة: هل يمكنها فعل شيء تجاه ما وصفه هايدغر في إجابة سابقة عن وضع العالم تحت سلطة التقنية، لاسيما قوله: “وستكون الدولة التكنولوجية الخادم الأكثر طاعة وانصياعاً أمام سلطة التقنية”. كانت إجابة هايدغر كالتالي على سؤال حول كيفية الخروج من “شبكة الحتميات تلك” وما إذا كان الفرد أو الفلسفة قادرين على ذلك: ليس في مقدور الفلسفة إحداث أي تغيير مباشر في حالة العالم الراهنة. لا يصح هذا على الفلسفة فحسب، بل على المساعي والتأملات الإنسانية الخالصة كافة. فلا ينقذنا إلا إله. وارى أن إمكانية الخلاص الوحيدة المتاحة هي أن نتأهب – من خلال الفكر ونظم الشعر – لظهور الإله، أو لغيابه أثناء الأفول؛ كي لا نموت، بعبارة بسيطة، “موتاً لا معنى له”؛ بل عندما يحين أفولنا فإننا نأفل في وجه الإله الغائب. هذه الإشارة إلى “إله” استوقفت محرر المجلة الألمانية، مثلما استدعت تعليقاً من المترجم العربي للنص. كلاها اتفق على أن الأرجح أن هايدغر لم يقصد الإله بالمعنى المتداول، أي إله الأديان السماوية، أو أي إله متجاوز لهذا العالم. المحرر الألماني يقول: “الأكثر احتمالاً هو أن هايدغر “لا يستعمل كلمة ’إله‘ بأي معنى شخصي وإنما بالمعنى الذي يمنحه للكلمة (غالباً في عبارة ’إله أو آلهة‘) في تفسيره لهولدرلن[الشاعر الألماني] ، أي بوصفه التمظهر المادي للوجود من حيث هو مقدس”. ويذهب إلى مثل ذلك المترجم العربي الذي قال إن البعد الصوفي في أعمال هايدغر، كما أشار إليه باحثون آخرون، غير مطروح هنا؛ غير أن التأكيد على استبعاد الدلالة التقليدية للألوهية، وهو استبعاد محتمل أو مفتوح للتفسير، أي استثناء تلك الدلالة التقليدية ربما يدل على توجه المفسرين أكثر منه على ما يريد هايدغر نفسه.كأن المترجم حرص على “تنزيه” الفيلسوف من أية أبعاد دينية تقليدية. ٢-فلهلم دلتاي: مخاض العلمانية يحتل دلتاي مكانة مميزة بين الفلاسفة الألمان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. اشتهر على عدة صعد، من بينها دراساته للتاريخ واللاهوت واهتمامه بالتأويل أو الهرمنيوطيقا، إضافة إلى حقول أخرى من أبرزها العلاقة بين العلوم الطبيعية الصاعدة آنذاك والعلوم الإنسانية التي كانت تسعى لتثبيت أقدامها في المشهد العلمي والفكري الغربي. ولد دلتاي (1833-1911)، مثل هايدغر لاحقاً، لأسرة مسيحية متدينة، وكان معجباً بشلايرماخر (القرن الثامن عشر) أحد أعلام اللاهوت ونقاد الكتاب المقدس حتى إنه حرر رسائل شلايرماخر وألف كتاباً عنه. غير أن ذلك لم يحل دون تحوله عن ذلك الاتجاه الديني إلى اتجاه حاد في علمانيته ونقده للجوانب العقدية أو رؤية العالم في المسيحية. يقول عنه الفيلسوف الأسباني أورتيغا إي غاسيه: “لكن بما أنه لم يكن لدى [دلتاي] اعتقاد ديني، فإن دراسة الدين بالنسبة له تتحول إلى دراسة للتاريخ”. كان مشروعه الأساسي تبيان “شروط المعرفة التاريخية، بقدر ما كان كتاب كانط ’نقد العقل الخالص‘ معنياً بمعرفتنا للطبيعة”. ويتصل بتلك المعرفة معرفة النصوص وتفسيرها، وقد تركت آراء دلتاي في التفسير أو التأويل أثرها على جيل تالٍ من الفلاسفة المعنيين بذلك المجال هما هايدغر وهانز غورغ غادامير. أحد المفاهيم المركزية في فلسفة دلتاي هي “الحياة”، أي ما يشار إليه في الفكر الديني بالدنيا، أو هذه الحياة مميزة عن حياة أخروية. يقول دلتاي إن هذه الحياة هي أقصى ما يمكننا الوصول إليه، بمعنى أنه ليس بإمكاننا من حيث نحن بشر أن نصل بمعرفتنا إلى ما يتجاوز هذا العالم المرئي، وكان هذا الرأي مدعاة لوصف فلسفة دلتاي بالإمبيريقية، أو المعنية بالملموس أو القابل للإثبات بالمعنى الحسي، وإن كانت إمبيريقيته، كما يرى بعض الباحثين، مختلفة عن الإمبيريقية البريطانية عند لوك وغيره من المحدثين، وأنها تظل متصلة بالمثالية الألمانية، أو أنها إمبيريقية معدلة بالنموذج المثالي السائد في الفلسفة الألمانية. يقول دلتاي إنه يرفض ما يرى من عدم الثقة بالطبيعة البشرية، “الطبيعة التي كانت دائماً موضوعاً لأعلى درجات الإعجاب لدي ...[إنها] مسارعة للماوراء وباتجاه ما يتجاوز المعرفة الحسية، تلك المسارعة التي أكره؛ هذا النزوع إلى الفئوية الدينية الذي أراه مستعصياً على الفهم”. ما رآه دلتاي مستعصياً على الفهم هو بالضبط ما رآه آخرون واضحاً أو أكثر وضوحاً على الأقل إذا نظرنا إلى الفهم على أنه ليس مقصوراً على الفهم العقلاني الصرف وإنما من حيث هو يتسع لفهم أو استيعاب يتجاوز حدود العقلانية، كما هو الحال عند فلاسفة أوروبيين بعضهم سبقه بقليل وبعضهم معاصر له وآخرون تالون. من السابقين شلايرماخر الذي درسه دلتاي وتأثر به، ومن التالين القريبين زمنياً من أمثال فيلسوف اللاهوت السويسري كارل بارت الذي وصل به الأمر إلى الخروج على اللاهوت الليبرالي لدى شلايرماخر لكن ليس إلى العلمانية الحادة كما عند دلتاي وإنما إلى الدفاع عن الدوغمائية في الفكر المسيحي. وما يتضح في نهاية المطاف أن دلتاي كان أنموذجاً للمخاض المستمر في الفكر الغربي، مخاض التحول العلماني الذي تعود جذوره إلى عصر النهضة ثم اشتد قواه في فكر التنوير ليستمر ويثبت في نهاية المطاف أنه الأكثر هيمنة وتأثيراً على مختلف وجوه الحياة وإن لم يؤد ذلك إلى إلغاء التيارات الدينية أو تأثيرها تماماً. كان مخاضاً تأزمياً في الفلسفة والفكر الغربي عامة، وكان دلتاي أحد أمثلته الواضحة، مثلما كان من تلاه بقليل، العلمان الضخمان: هوسرل وهايدغر.