أفراح الكتابة.
الكتابةُ حياةٌ، ينفذ بها الكاتبُ إلى أسرارِالحروف، وكُنْهِ الكلمات؛ مُتَوسِّلًا بها إلى الخلودِ، ويناورُ الفناءَ، ويقاومُ النسيان. وما أكثرَ فضائل الكتابة إن عددناها، غير أني أقصدُ إلى ما تَهَبُه الكتابةُ للكاتبِ مِن نورٍ وأفراح؛فلله كم تزرعُ الكتابةُ على حوافِ العمرِ من المسراتِ الصغيرة، التي تُبقي على المعنى في حياةِ الكاتب؛ منذ تلوبُ الرغبةُ في صدره، وتحومُ الفكرةُ في رأسه؛ وتلك هي المسرة الأولى، ثم لذة ذلك الطنين الباعث لأسْرِ الفكرة، وتحويلها إلى نَصٍ محتشدٍ بالمعاني في صورةِ كلماتٍ مرسومةٍ على الورق، أو مرقومةٍعلى الشاشة. وبينما يتشكَّل النصُ تتناسلُ مِن صُلبِ الفكرةِ الأولى أفكارٌ كالزهورِ على الأغصان، تحطُّ عليها أفكارٌ أخرى، كالفراشات، فإذا تخلَّق النص فتلك مسرةٌ أعظم؛ يفرح لها الكاتبُ كطفلٍ يتلقى هديةَ ليلةِ العيد. وما بالُنا نجاوزُ فرحةَ العنوان، حين يهتدي الكاتبُ إليه، أو يهتدي هو إلى النص، فيكون عتبة البهجة التي تُتَمِّمُ أفراحَ الكتابة. وبهجةٌ تأتي من هناك؛ من انتظارِ ظهورِ النص في زاويةِ صحيفةٍ، أو وجهِ مجلة، كطائرٍ يُغَنِّي للكاتب في الشبابيك، وعلى الأغصان، وفي الطرقات، ناهيك عن عبقِ الكلماتِ التي يجودُ بها قارئٌ لامستْ كلماتُك وجدانَه، أو قالتْ شيئًا في صدرِه. فإن كان المنجزُ كتابًا، فالمسراتُ تستمرُ في الهطولِ؛ حين تدفعه للطباعة، وكلما تسلمتَ تجربةً للمراجعة، وها نَصُّكَ يتخلَّق، وتتساقطُ على روحِك المسراتُ، مع كل تفصيلة: العنون، لوحة الغلاف، شكل الخط، نوع الورق، تنسيق السطور والكلمات، مراجعة الفهرس، ثم ها كتابك يتخذ مدارَه في العالَمِ المحسوس، وتقعُ نسختُه الأولى بين يديك؛ تَضُمُّها إلى صدرك، وتجدُ رائحةَ الورقِ، وتَحْمِلُه البُرُدُ إلى أحبابِك في الأرجاء، فتمنحهم سرورًا، وتَهَبُك كلماتُهم ضوءًا يملأ الأفق، ويستمرُّ هطولُا لمسراتِ محمولةً في كلماتِ الرضا، وفي باقاتِ النقدِ والتوجيه؛ تلك التي يجودُ بها قراءٌ رأوا في نَصِّكَ شيئًا جميلاً يستحقُّ أن يكون أكمل. ثم ينطلقُ كتابُكَ كطائرٍ لا يضلُّ وجهتَه؛فيتسلَّلُ إلى رفوفِ المكتباتِ، ويُعرَضُ على واجهاتِ المتاجر، ويقتنيه قارئٌ غريب في مدينة غريبة، فيختلج قلبه لسطر يشبه حياته، فذلك هو مجد الكتابة.