الطريق الوعر نحو القرار الصائب.

في كل مؤسسةٍ هناك لحظات تُختبر فيها الشجاعة أكثر مما تُختبر فيها الكفاءة؛ لحظات تقف فيها الحقيقة على حافة الباب، تنتظر من يملك الجرأة لإدخالها. وبين مجاملةٍ تُريح اليوم وصراحةٍ تُنقذ الغد، يتحدد مصير القرار… ومصير القائد. يقول كيسينجر: “لا شيء يتعب أكثر من التعامل الشخصي مع الأبطال.” ولعل هذه العبارة — رغم بساطتها — تفتح بابًا واسعًا للتأمل؛ فنحن لا نتعب من العمل بقدر ما نتعب من التعامل مع أولئك الذين نضعهم في مرتبة أعلى مما يجب. الأبطال الذين نُحيطهم بصمت أكثر من الكلمات، ونخشى أن تُصيبهم عبارة صادقة بخدش غير مقصود، فنختار السلام المؤقت بدل الحقيقة اللازمة. والحقيقة أن الإرهاق الأكبر في المؤسسات لا يأتي من حجم المسؤوليات ولا من تكدّس الملفات، بل من المسافة التي تتسع بين الواقع وما يُقال عنه. من ذلك التردد الخفيف بين ما نراه وما نسمح بظهوره على الطاولة. في تلك المنطقة الرمادية، تنمو المجاملات وتتلعثم الحقائق، وينشأ ما يشبه “الضباب الأخلاقي” الذي يجعل الطريق نحو القرار الصائب معتمًا ومليئًا بالمنعطفات. المجاملة تبدو لطيفة، لكنها في جوهرها سقف زجاجي يحجب الضوء ويمنح صاحب القرار شعورًا زائفًا بالطمأنينة. سقف لا يمنع الحقيقة تمامًا، لكنه يجعلها غير مرئية بما يكفي لإساءة التقدير. وهكذا تتكوّن ما يمكن تسميته بـ دائرة الوهم؛ دائرة تحفظ المشاعر لكنها تُضعف المؤسسات، وتؤجّل المواجهة لكنها تُسرّع الخطأ، تمنح صمتًا جميلًا اليوم لكنها تُعدّ لانفجار أكبر غدًا. من تجربتي، تعلمت أن أخفّ أنواع الألم هو ألم الصراحة. وأن التعامل مع المخاطر المهنية بالعواطف يشبه محاولة إطفاء حريق بالعطر: رائحته جميلة، لكنه لا يطفئ شيئًا؛ فالمجاملة تُجمّل العيوب ولا تصلحها، وتُهدّئ اللحظة لكنها تُربك المستقبل. بينما تقوم الصراحة المهنية على أسس لا تتغير: بيانات واضحة، لغة أرقام دقيقة، معايير منطقية، وحجج تقف على أرض صلبة لا على الانطباعات. القادة الحقيقيون لا يبحثون عمّن يمنحهم الرضا اللحظي، بل عمّن يكشف لهم ما لا يريدون رؤيته؛ فالتحسين لا يأتي من كلمات التهنئة، بل من الأسئلة الصعبة، والملاحظات الحرجة، والتنبيهات التي تُقال في اللحظة التي ينبغي أن تُقال فيها. والندم — بطبيعته — يعيش في الفراغ، لا في النفوس التي أعطت كل شيء. أما الشجاعة — مهما بدت مكلفة — هي وحدها التي تمنحك راحة النهاية؛ راحة أنك قلت الحقيقة، وبذلت ما عليك، وتركت القرار يسير على أرض متينة، لا على أرض ناعمة زلقة من المجاملات. ختامًا، لا تتقدم المؤسسات لأن الناس فيها يتجنبون الإحراج، بل لأنها تملك من الشجاعة ما يكفي لتقديم الحقيقة كما هي. فالحقيقة — في عالم الإدارة — ليست خيارًا أخلاقيًا؛ إنها خطة النجاة الوحيدة. وإذا كانت المجاملة بابًا للرضا اللحظي، فإن الصراحة المهنية هي الباب الوحيد للاستدامة. والمؤسسات لا تنهار من قسوة الصراحة، بل من لطافة المجاملة. * مستشار موارد بشرية/ مدير تنفيذي