يعد الأسبوع السعودي الدولي للحرف اليدوية “بَنّان”، الذي تنظّمه “هيئة التراث”، أشبه بفسحة واسعة يلتقي فيها الإرث بالمستقبل، لكن أكثر ما لفت الانتباه في دورته الأخيرة لم يكن التنوع الكبير في الحرف أو الامتداد الجغرافي للمشاركين، بل ذلك الحضور النسائي الكثيف الذي بدا كأنه يحكي قصة قطاع كامل تقوده الأيدي الماهرة للنساء. ومع أن الانطباع الأول يوحي بأن هذا التفوّق الحسي ربما يكون نتيجة كثافة المشاركة، إلا أن الأرقام الرسمية جاءت لتؤكد أن ما نراه في “بَنّان” هو انعكاس مباشر لحقيقة أوسع. فمنصة “أبدِع”، المعنية بحصر وتسجيل الحرفيين المرخّصين في المملكة، تكشف حتى عام 2025 عن وجود 5025 حرفيًا سعوديًا، يشكّل النساء منهم 3835 امرأة مقابل 1190 رجلًا فقط. وهذه النسبة، التي تتجاوز ثلاثة أرباع القطاع، ليست مفاجِئة حين ننظر إلى جذور الحرفة وطبيعتها ودورها التاريخي في البيوت والقرى والبادية. واللافت أن هذا الانتشار النسائي لا يتركّز في منطقة بعينها، فخريطة التوزيع تبدو غنية مثل الحرف نفسها: الرياض تتصدّر القائمة بـ 995 حرفيًا، تليها مكة المكرمة بـ 872، ثم المدينة المنورة بـ 534، فالمنطقة الشرقية بـ 418، فيما تحضر القصيم، عسير، الأحساء، الطائف، حائل، نجران، الباحة، وتبوك بأرقام تكمل لوحة واسعة لقطاع مترامي الأطراف. هذه الخريطة لا تقدّم بيانات جافة، بل تفسّر ما يحدث داخل أروقة “بَنّان”. فالأجنحة التي تنتشر فيها النساء ليست مجرد مساحات عرض، بل منصات تُحَوِّل المهارات التقليدية إلى مشاريع معيشية. كثير من الحرف التي تملأ المعرض—كالسدو، النسيج، التطريز، المشغولات النخلية، والحرف الورقية—كانت في أصلها مهامًا منزلية تُورَّث داخل البيوت، قبل أن تتحوّل اليوم إلى مصدر دخل ووسيلة تمكين اقتصادي. وهنا يكتسب المعرض قيمته الكبرى: فهو لا يكتفي بأن يكون احتفالية بالتراث، بل يفتح أبواب السوق أمام صاحبات هذا الإرث. في “بَنّان”، تجد الحرفية القادمة من قرية وادعة أو مدينة بعيدة نفسها أمام جمهور واسع يرى عملها لأول مرة. تضع قطعها على الطاولة، تشرح قصتها، وتلمح في عيون الزوار شيئًا من الدهشة والفخر. هنا، تتجاوز الحرفة كونها منتجًا لتصبح حوارًا بين الماضي والحاضر؛ قطعة مصنوعة بيد امرأة تُعرَض أمام عشرات العيون ثم تنتقل إلى بيت جديد، حاملة قصة جديدة. وكل عملية شراء، أو استفسار، أو حتى صورة تُلتقط، تتحوّل إلى خطوة إضافية في رحلة التمكين التي بدأتها الحرفيات بأدوات بسيطة وذاكرة ممتدة. ولعل أجمل ما يفعله “بَنّان” أنه يترجم الأرقام إلى واقع حي. فحين تقول الإحصاءات إن النساء يشكّلن أكثر من 75٪ من القطاع، فإن المعرض يقدّم الدليل الملموس: نساء يبتكرن، يعرضن، يبعن، ويسوّقن لأنفسهن بثقة متنامية. وفي كل جناح، يبدو المستقبل قريبًا، لا لأن الحرفة تزداد حضورًا فقط، بل لأن النساء اللواتي حافظن عليها لسنوات طويلة صرن اليوم في موقع قيادتها، وصرن جزءًا من اقتصاد إبداعي يتسع عامًا بعد عام. وهكذا، يتحوّل “بَنّان” منظّمًا بإتقان من هيئة التراث إلى أكثر من مجرّد معرض. يصبح مساحة تمنح الحرفيات منصة يلتقين فيها بالفرص، وبالناس، وبالأفق الاقتصادي الجديد الذي يُعاد بناؤه عبر قطعة تحمل ذاكرة، وتتقاطع فيها يد الماضي مع طموح الحاضر.