الجفاف الكتابي
شهر و زيادة مرت على آخر فكرة نشرت له ،شهر بلا حضور كتابي، شهر وقلمه يعيش في المنفى الاختياري ، أو في تلك العزلة التي ضُربت عليه فأحالته إلى أثر بلا تأثير و أثر بعد عين ! يعيش الكاتب حالة مزاجية مخيفة، البعض يراها وقوده للحضور و الإبداع و الإبتداع والبعض الاخر يراها مثلبة تنتقص منه ومن نتاجه المنتظر؛ هذا إذا كان أحد ينتظر نتاجه !. مزاجية الكاتب تأخذه إلى ظلمات العزلة التي تطبق عليه ،و تحكم على قلمه بالسجن داخل أراشيفه القديمة ،و أحيانُا يكون هو السجان كون قلمه ما عاد يسيل على صفحات الورق، ليكتب و يبدع ويواصل الجري في مضامير الكتابة ودهاليزها . لم يعد يستهويه الإلتزام الكتابي إلا فى حالات نادرة ، وخاصة عندما يدفعه الإلهام ليكتب شيئا جديدا جدًا ، قد يكون هذا الجديد؛ جديد بالنسبة له ككاتب ،و قد يكون عند النافذين قراءة و فهمُا و تفهمًا؛ شيئا مكرورا لا يستحق الوقوف عنده ! . في زمن ليس بالبعيد كان يحرص على الحضور (ككويتب) و ليس ككاتب ؛ يكتب ليرضي غروره الكتابي وربما الاجتماعي ، اليوم ما عادت الكتابة ترضي أحدا ،حتى الكتاب ما عادة الساحة تبحث عنهم في ظل سطوة وسائل التواصل الحديثة التي سحبت البساط من تحت أقلامهم وأحالتهم إلى طفرة ماضوية كانت ولم تعد !. يسأله شامت ليس له من ضروب الفنون و الحضور سوى هذا النوع الرخيص من الخلق، أما زلت تكتب، أما زلت في هذيانك القديم؟!، لم يجب عليه ولن يجيب على أمثاله من الذين حرموا المعرفة ، هولاء يرون في الكاتب مشروعا مخيفا يجب أن يطفأ ،ليحلو لهم الرقص في الظلام ، ذلك الظلام الذي يخفي عجهم و عوجهم والذي يضمن لهم مساحات من الحضور بين العميان، ليقولوا ما لا يفعلون وليفعلوا ما يخافون البوح به و الحديث عنه أمام عامة الناس و خاصتهم. كان الكاتب و مازال بالنسبة لهولاء ؛نور يفضح عوار وجوههم ووجودهم ،و زلزال يدمر حصونهم التي سيجوها بالكذب و الدجل و التدليس . ومع ذلك مازال كاتبنا ، متمسكا بالكتابة فهي الوسيلة التعبيرية الأكثر نفوذا في مساحات الزمن القادمة ،فالكلمة المكتوبة أرشيف إنساني ،لها عشاقها ومريدوها الذين يبحثون عن وقع الكلمات على السطور، لتنتابهم تلك الدهشة التي تشبه الرعشة في البدن استجابة لمؤثر قوي حل من هنا أو لاح من هناك . الأفكار وقود الكتابة و هي كما قيل نفائس ملقاة على الطريق، وظيفة الكاتب أن يلتقط تلك الأفكار ليعيد رسمها على الورق ،لتصبح صورا إبداعية يستطيبها من يستطيب عذب الكلام، ويعيد رسمها ودوزنتها على وقع تلك الذائقة الإنسانية السليمة ،التي تصل إلى أعلى درجات النشوة الإبداعية ليقال ؛ الله ما اعذب هذا الكلام . ويبقى السؤال لماذا نكتب ؟ والجواب يكمن في تلك الخلجات الإنسانية التي لا تقوى على الظهور إلا من خلال الكتابة، تبقى تلك الأفكار حبيسة الأدراج و قبلها العقول حتى تأذن لها تلك اللحظة الاستثنائية لتحيلها إلى مشاريع كتابية تبوح و تنوح ، تبوح بمكنون أنفس بشرية جبلت على القول و العمل ، وتنوح لمستوى قرائي متدن صار يطبق على العقول، فلم تعد تقرأ لترفع و ترتفع ، ترفع مستوى الكتابة التداولي بين الناس ، ليرتفع مستوى المعرفة وما يعقبها من وعي للأفراد و المجتمعات. نعود للكتابة لنجسر الهوة بين ما نود أن نقوله ،وماتريد اللحظة إسماعه للناس ، فالكتابة جسر معلق بين فكرة و قاريء أراد الكاتب أن تقال لتقرأ و تلقفها القارئ لتكون جزء من مخزونه الثقافي و الفكري و المعرفي. الجفاف الكتابي هو حالة من الجدب و القحط المعرفي ،قد يتغشى الكاتب فترة من الزمن، هذه حالة لا يمكن للكاتب التعايش مع يباسها الفكري و المعرفي ،والذي زادته وسائل التواصل الاجتماعي قحطا و جفافا ،كون هذه الوسائل رفعت من مستوى القيمة الاستهلاكية للفرد و جعلتها أولا، في حين أن الكتابة بمستوياتها الرفيعة و نتاجها الأرفع ،دأبت على بناء هيكل ثقافي معرفي يؤمن بالرأي والرأي الآخر ،لإيجاد شراكة فكرية وجدانية بين كاتب يرسل و قاريء نبيه يستقبل بفهم وإدراك ؛ و قد يقبل ولايقبل !.