مع الخيل يا شقراء.

المتتبع للقضايا الاجتماعية ـ محلياً وخليجياً ـ يلحظ ظاهرة لا تكاد تخطئها العين، تشابه الآراء على نحوٍ يجعلك تشعر بأن الجميع يرددون الفكرة نفسها، وبالأسلوب نفسه، وبالحماسة ذاتها، وكأن العقول قد أُغلقت على رأي واحد لا يسمح بغيره. هذا التشابه لا يعكس دائماً اتفاقاً نابعاً من فهم، بل كثيراً ما يكون نتاج اندفاعٍ جماعي، أو خوفٍ من مخالفة تيار يرتفع صوته أكثر مما يرتفع دليله. وليس هذا جديداً؛ فالمجتمعات حين تحتدم قضاياها تميل بطبيعتها إلى الاصطفاف، حيث يبحث كثيرون عن “الطرف الآمن” بدلاً من “الرأي الصحيح”. يصبح الانضمام إلى رأي متداول وسيلة للهروب من النقد، لا اختياراً واعياً. وهكذا تتضخم الأصوات المتشابهة حتى تبدو وكأنها الحقيقة المطلقة، بينما هي في جوهرها مجرد صدى لصوت واحد أعلى من غيره. البعض حين يسير خلف الأغلبية لا يفعل ذلك اقتناعاً، بل هرباً من أن يوصف بالجهل أو قلة الإدراك. يظن أن الرأي المخالف عبئاً ثقيلاً سيجرّ عليه موجة نقد أو تهكم، فيفضل أن يكون رقماً في صف طويل بدلاً من أن يكون صوتاً واحداً يواجه العاصفة. وهكذا يتحول الرأي العام عند البعض إلى سلطة اجتماعية تُرغمهم على قول ما لا يرونه، أو السكوت عما يجب قوله. لكن الرأي المختلف ـ إذا قيل بثبات ودون صدام ـ يصبح علامة على نضج صاحبه، لا على نقصه. فالعاقل لا يختار موقفه بناءً على عدد المصفقين، بل على مقدار ما يراه صواباً وإن خالفه الملايين. والأفكار تكبر حين تُقال، لا حين تُدفن خوفاً من الجماعة. واللافت أن الأصوات العالية في ساحة النقاش ليست بالضرورة الأكثر فهماً لما يجري. كثير من هذه الأصوات تتحرك بدافع الانفعال أو الرغبة في الظهور أو خوفاً من العزلة الرقمية، لا بناءً على تحليل أو معرفة. خلف هذا الضجيج، تقف الأغلبية الصامتة، قارئون هادئون، يدركون أكثر مما يبدون، ويستوعبون أعمق مما يصرحون. هؤلاء يعرفون أن النقاش في فضاء مفتوح قد لا يتسع للرأي المستقل، لذلك يكتفون بالمتابعة دون مشاركة، ليس خوفاً، بل وعياً بأن كثرة الكلام لا تصنع الحقيقة. والمؤسف أن كثيراً من القضايا يُظن أنها محل إجماع، فقط لأن أصحاب الرأي المغاير فضلوا الصمت على الدخول في فوضى الردود. وما أكثر الآراء التي تهاوت حين هدأ الضجيج، وتبين أن “الإجماع” لم يكن سوى موجة عابرة صنعتها الجرأة لا المعرفة. ثم عادوا بعد حين يتفقدون قناعاتهم، فلا يجدون فيها إلا صدى الآخرين، مع إن السير مع الجمع لا عيب فيه إذا كان نابعاً من اقتناع، لكن العيب أن يعطّل المرء عقله ليجري مع الآخرين دون بوصلة. فليس كل اتجاه يقود إلى الحقيقة، ولا كل ضجيج دليل على فهم، ولا كل إجماع علامة على صواب. فالسير مع الناس لا يعيب صاحبَه، إنما يُعاب عليه حين يركض دون بصيرة، لا يدري لماذا بدأ ولا أين سينتهي.