الاستراتيجية «الحاتمية» في تنمية القيادة.
في زمن تتسارع فيه المؤشرات والأرقام، وتتنافس فيه المؤسسات على النفوذ والريادة، يبقى البعد الأخلاقي هو جوهر القيادة الحقيقية. وإذا استحضرنا سيرة حاتم الطائي، فإننا لا نتحدث عن كرم اليد فحسب، بل عن كرم النفس، واتساع الأفق، ونقاء المقصد. فالقائد الذي يتشرب مبادئ حاتم الطائي، لا يرى في المنصب امتيازًا بل رسالة، ولا في الموارد وسيلة للتفاخر، بل أداة للعطاء المؤسسي المستدام. الكرم في عالم الإدارة لا يُقاس بالولائم ولا بالمكافآت، بل بالثقة التي يزرعها القائد في نفوس فريقه، وبالفرص التي يفتحها لغيره، وبالمعرفة التي يشاركها دون تردد. هو كرم في منح الآخرين الضوء، لا في سرقته، فكما كان حاتم يضيء مضارب قومه بالنار ليهتدي بها الضيف، يضيء القائد الملهم دروب من يعملون معه بالرؤية والتمكين. وقد تجلّى هذا المعنى في رؤية السعودية 2030 التي جعلت من الكرم قيمة وطنية تتجاوز العطاء المادي إلى كرم في الفكر والفرص والمسؤولية. رؤية تؤمن بأن الاستثمار في الإنسان هو أعظم أوجه الكرم، وأن تمكينه من التعليم والعمل والابتكار هو طريق الازدهار الحقيقي. فكما يفتح القائد الكريم أبواب بيئته لمن حوله، فتحت الرؤية أبواب المستقبل لأجيال الوطن، مستحضرة روح الكرم العربي في أبهى صوره: كرم التنمية، وكرم الرؤية، وكرم الإلهام. ولعل أعظم ما في هذا الكرم الوطني أنه لا يقتصر على الداخل فحسب، بل يمتد إلى الإنسانية جمعاء، في مبادرات الدعم والإغاثة، وفي نشر قيم التسامح، وفي العطاء المعرفي الذي تقدمه المملكة للعالم. لقد أعادت الرؤية تعريف مفهوم القيادة الأخلاقية على مستوى الدول، حين جعلت التنمية مسؤولية مشتركة لا حدود لها. فالقائد الذي يتخلق بالكرم لا يسعى لترك بصمة في دفتر الحضور، بل يترك أثرًا في وعي الناس، وفي ذاكرة المؤسسات. إن كرم القائد يُقاس بقدر ما يمنحه من فرص للنمو لمن حوله، وبقدر ما يزرع من ثقافة التمكين والاحترام في بيئة العمل. من هذا المنطلق، فإن أخلاقيات القادة لا تنفصل عن التنمية المستدامة، فكرمهم الفكري والقيادي يخلق بيئات عمل رحبة، تنمو فيها الكفاءات وتزدهر فيها القيم. القادة لا يكتفون بتحقيق الأرباح، بل يسعون لترك إرث من السمو الإنساني، يوازن بين الربح والمسؤولية، وبين الأداء والضمير. ولذلك فإن القائد الكريم لا يُعرَف بما يملكه من سلطة، بل بما يمنحه من طمأنينة. هو الذي يسكب الأمان في نفوس مرؤوسيه، فيجعل بيئتهم بيئة ثقة لا خوف، وتعاون لا تنافس مريض. في ظل هذا المناخ يولد الإبداع، وتتجلى الاستدامة، ويُثمر العمل حبًا وولاءً. وهكذا، يظل حاتم الطائي رمزًا متجددًا في ذاكرة القيادة المعاصرة؛ فمنه نتعلم أن القائد الكريم هو الذي يجعل من كرمه استراتيجية للتنمية، ومن إنسانيته ميزة تنافسية لا تُقاس بالمال، بل تُقاس بالأثر الذي يتركه في القلوب قبل التقارير. فالكرم في القيادة ليس ترفًا أدبيًا، بل هو خيار استراتيجي يؤسس لثقافة مؤسسية مستدامة، ويحوّل بيئات العمل إلى منصات تزدهر فيها القيم قبل الأرقام. ومتى ما اجتمع الكرم مع الرؤية، تحققت المعادلة النادرة التي تجمع بين الازدهار والإنسانية في آن واحد * (متخصص في القيادة والتمكين )