محمد بن سلمان في أمريكا..

زيارة لا يشبهها إلا صانعها .

أعترف ــ قبل أن أبدأ الكتابة ــ أنني أشعر بشيء من التردد في كتابة تلك المقالة. ليس لغياب المعرفة ولا لنقص القدرات والأدوات، وإنما لهيبة الحدث نفسه. فهناك زيارات رسمية كثيرة مرّت في تاريخ العلاقات الدولية، لكنها لا تشبه ما حملته زيارة سمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- إلى الولايات المتحدة من ثقل سياسي، واقتصادي، واستراتيجي، وما تخللها من لقاء تاريخي مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. خشيتُ أن يضعف قلمي أمام هذا الزخم، وأن لا أستطيع أن أحيط — كما ينبغي — بعظمة المكتسبات التي حصدتها المملكة، وبحجم الفخر الذي شعر به السعوديون بل والعرب والمسلمون أجمع وهم يشاهدون قائدًا شابًا، واثقًا، يقود بلاده إلى مكان لا يشبه إلا طموحه. لكن سأبدأ ، لأنه لا بد من الكتابة حين يكون الحدث نفسه كتابًا مفتوحًا للحاضر والمستقبل معًا. فمملكتنا الغالية اليوم تُعيد رسم خريطة القوة في العالم ، فمن يتابع المشهد العالمي اليوم يدرك أن القوة لم تعد تُقاس فقط بكمية النفط المستخرج، ولا بعدد الدبابات في الميدان، بل بقدرة الدول على بناء شراكات استراتيجية رقمية، وتحالفات اقتصادية، ومسارات استثمارية تنطلق من الذكاء الاصطناعي وصولًا إلى الطاقة المتجددة، ومن الصناعات الدفاعية حتى التقنيات والأنظمة والمعادن الإستراتيجية التي تقوم عليها حضارات الغد. في هذا السياق تحديدًا جاءت زيارة ولي العهد إلى أمريكا ، فلم تكن زيارة بروتوكولية عابرة، ولم تكن زيارة مجاملة سياسية. كانت زيارة صانع قرارٍ يعرف وزن بلاده، ويدرك حجم تأثيرها في كل سوق من أسواق العالم، من الطاقة إلى التقنية، ومن الأمن الإقليمي إلى المعادلات الكبرى في المجتمع الدولي. فلقاء سمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم يكن مجرد اجتماع بين مسؤولين، كان لقاء بين رؤيتين: رؤية سعودية تقود المنطقة نحو التحول الأكبر في تاريخها الحديث، ورؤية أمريكية تدرك أن المستقبل لن يُكتب دون شراكة مع دولة بحجم المملكة. كان اللقاء رسالة بثلاث لغات هي: لغة القوة، فالمملكة اليوم ليست شريكًا تابعًا، بل لاعبًا قادرًا على توجيه طاقة الأسواق العالمية، ولديها أوراق اقتصادية تجعلها محورًا لا يمكن تجاوزه ، ولغة الثقة بين قائدين يعلمان أن التحولات العالمية تحتاج إلى جسور متينة لا تصنعها الدبلوماسية وحدها، بل تصنعها المصالح المشتركة والعقول التي تؤمن بالمستقبل ، بالإضافة إلى لغة المستقبل، فالموضوعات التي طُرحت لم تكن من نوع الملفات التقليدية، بل مشاريع ممتدة لعقود، تُرسم الآن لتغيّر شكل الاقتصاد العالمي نفسه. اتفاقيات تُبنى عليها دول… وليس مشاريع فقط ما ميّز الزيارة لم يكن عدد الاتفاقيات، بل نوعيتها واتجاهها، إذ شملت أربعة محاور تُعد اليوم العصب الاستراتيجي للدول الكبرى وهي: أولاً، الذكاء الاصطناعي، المجال الذي يبني أمم المستقبل ، فلم تعد المملكة مجرد دولة مستهلكة للتقنية، بل دولة تصنع الابتكار، وتستقطب المواهب، وتستثمر في شركات عالمية كبرى. فوقعت المملكة اتفاقيات مع أهم المؤسسات التقنية في أمريكا وهو جزء من مشروع سعودي واضح وهي: “أن تكون المملكة مركزًا عالميًا للذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، وربما أحد أهم مراكزه عالميًا خلال العقد القادم”. وهذا ليس طموحًا إنشائيًا، بل امتداد لمشاريع قائمة وعملت عليها المملكة منذ انطلاق رؤية السعودية 2030 التي غيرت مجريات الكثير من الأمور على المستوى المحلي والدولي. حيث أنشات المملكة مركز سدايا ، الأكاديمية العالمية للذكاء الاصطناعي وجذبت الاستثمارات الضخمة في الشركات الناشئة ، والمبادرات التي جعلت السعودية أرضًا خصبة للصناعات الرقمية. ثانيًا، الطاقة ، وريثة النفط التي تقود المستقبل اليوم في المملكة ، فمنذ عقود والعالم ينظر إلى السعودية كقلب سوق النفط. لكن اليوم، ومع رؤية 2030، أصبحت المملكة لاعبًا رئيسيًا في الطاقة بمفهومها الواسع التي شملت: النفط ، الغاز ، الهيدروجين ، الطاقة الشمسية ، مشروعات الربط الكهربائي ، الصناعات المرتبطة بالطاقة النظيفة. فالاتفاقيات الجديدة في الولايات المتحدة جاءت لتؤكد أن السعودية ليست فقط محورًا في سوق النفط، بل شريكًا عالميًا في بناء منظومة الطاقة المتجددة التي سيعتمد عليها العالم خلال العقود المقبلة. ثالثًا، الدفاع ، والتي بلاشك شراكة تبني استقلالية القرار ، فالسعودية اليوم لا تشتري السلاح فقط ، بل تصنعه وتنقله وتطوّره، والاتفاقيات الدفاعية الجديدة التي وقعتها المملكة تسير في الاتجاه ذاته وهو: “بناء صناعة دفاع سعودية قادرة على تلبية احتياجات المملكة بنسبة أعلى من الاكتفاء الذاتي، والاستثمار في التقنيات الدفاعية الحديثة، وتعزيز أمن المنطقة عبر تعاون استراتيجي طويل الأمد”. رابعًا ، المعادن، السباق العالمي الجديد ، فالمعادن النادرة ليست مجرد موارد طبيعية؛ إنها النفط الجديد، فالعالم يتجه نحو الصناعات التي تقوم عليها تلك المعادن الأرضية النادرة كالسيارات الكهربائية، والبطاريات، والروبوتات، والأنظمة المتقدمة في الدفاع والصناعات العسكرية وتقنيات الطاقة النظيفة. السعودية اليوم تمتلك أحد أكبر مخزونات المعادن ، تدخل السباق من بوابة الشراكات الكبرى، ومن خلال منظومة تشريعية واستثمارية هي الأكثر تطورًا في المنطقة. فزيارة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- إلى أمريكا أكدت وأثبتت قيادة تحوّل السعودية إلى نموذج عالمي. والأهم من كل الاتفاقيات التي تضمنتها تلك الزيارة هي تلك القيادة الشابة ذات الرؤية والتطلعات الطموحة التي وقفت خلفها.السعوديون لا يرون في ولي العهد مجرد مسؤول رفيع؛ بل يرونه قائدًا ملهما أعاد تعريف معنى الدولة الحديثة، وفتح أبواب المستقبل أمام جيل كامل من أبناء هذا الوطن الغالي ، فهذا الأمير الشاب، الذي أحبّه شعبه وأحبه العالم، استطاع أن يجمع بين: الجرأة السياسية ، الحضور العالمي، التفكير الاقتصادي المتقدم والقدرة على تحويل الرؤية إلى واقع. في سنوات قصيرة، انتقلت المملكة من دولة تعتمد على النفط كمصدر رئيس إلى دولة تتصدر مؤشرات الاستثمارات العالمية في التكنولوجيا، وتطلق أكبر مشاريع مدن المستقبل (نيوم، ذا لاين، أوكساغون)، وتبني قطاعًا سياحيًا غير مسبوق في المنطقة، وتحوّل اقتصادها إلى أحد أسرع الاقتصادات نموًا في العالم. فعرف سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- كيف يستفاد من قوة المملكة الاقتصادية ، فالقوة الاقتصادية ليست أرقامًا فقط، بل هي القدرة على التأثير، وسمو سيدي ولي العهد استخدم هذه القوة بطريقة غير مسبوقة، حيث جعل الاقتصاد أداة سياسية ناعمة ، فحين تكون المملكة أكبر مُصدّر للطاقة، وأكبر مستثمر في مشاريع التحول العالمي، فإن اسمها يصبح جزءًا من حسابات كل دولة كبرى.فاستطاع سموه أن يبني شراكات استراتيجية ،حيث لم تعد العلاقات مع واشنطن أو غيرها مبنية على اعتماد أو تبعية، بل على مصالح متبادلة، وهذه هي فلسفة ولي العهد، فالعلاقة القوية لا تعني علاقة غير متوازنة. كما أن هذه الزيارة وظفت الرؤية الوطنية في تحالفات دولية ، فرؤية 2030 لم تعد مشروعًا سعوديًا داخليًا فقط؛ أصبحت منصة سياسية واقتصادية تبني عليها الشركات الكبرى استراتيجياتها في الشرق الأوسط. مكتسبات للسعوديين… وللعرب والمسلمين هذا ما يميز هذه الزيارة تحديدًا ، أن أثرها لم يتوقف عند حدود المملكة، فبحكم مكانتها الإسلامية وقيادتها للعالمين العربي والإسلامي، حين تقوّي موقعها الدولي، فإنها تمنح قوة ووزنًا لشعوب المنطقة كلها. فهي تعمل على تعزيز الاستقرار ، جذب الاستثمارات ، حماية الممرات البحرية ، دعم الأمن الإقليمي والوقوف ضد الفوضى والصراعات. وهذا كله نتائج ترتبط بقوة السعودية التي يقودها سمو ولي العهد الأميرمحمد بن سلمان. لم تكن هذه الزيارة مجرد صفحة في دفتر العلاقات السعودية – الأمريكية، بل كانت فصلًا جديدًا يُعاد فيه رسم شكل التعاون بين البلدين. فالمملكة اليوم لم تعد تُعرّف بدورها التاريخي فقط، بل بدورها القادم ، فهي قوة اقتصادية كبرى، مركز عالمي في الذكاء الاصطناعي، لاعب محوري في الطاقة، وصانع رئيسي للاستقرار الإقليمي والدولي. والأجمل من ذلك كله ، أن هذه النجاحات تقف خلفها قيادة شابة، تؤمن بأن المستقبل يُصنع ولا يُتوقع، وأن مكان المملكة الطبيعي ليس في الصفوف الخلفية، بل في مقدمة المشهد العالمي. ختامًا… لماذا شعر السعوديون بالفخر؟ لأنهم شاهدوا مرة أخرى مشهدًا أصبح مألوفًا لهم ، قائدهم يقف بثقة بين كبار زعماء العالم، يتحدث باسم بلد قوي، ومؤثر، وصاحب رؤية، بلد يعرف أين يقف، وإلى أين يمضي. ولأنهم أيقنوا أن المستقبل الذي يُبنى اليوم في يد محمد بن سلمان ليس مستقبلًا للسعودية وحدها، بل مستقبلًا ينعكس خيره على المنطقة كلها. هذه الزيارة لم تكن حدثًا عابرًا ، بل كانت عنوان مرحلة جديدة. مرحلة يُكتب فيها التاريخ لا بالحبر، بل بالأفعال. *إعلامي سعودي mnalabdulsalam@